استهلال
مقاربة موضوع التعليم من زاوية الهيكلة ليس ترفا فكريا أو عملا تقنيا، بل هو اختيار منهجي يهدف معرفة الإطار الذي سوف يحتضن الفكرة والوعاء الذي يستوعب المشروع، بل إن الهيكلة جزء من المشروع ذاته والتصور ذاته والمذهبية ذاتها، فسواء تعلق الأمر بالجانب الثقافي، التربوي، الاقتصادي، الحقوقي، السياسي أو غيرها يكون الاختيار التنظيمي (الهيكلة) مصيريا ومؤثرا، ذلك أن البناء التنظيمي هو الذي ينتج الأفكار أو على الأقل يعيد انتاجها أي توجيهها اخراجا وتنزيلا وتطبيقا، فالأشكال التنظيمية والهياكل هي كذلك منتوجات حضارية تحمل مبادئ وتصورات وأولويات الحضارة أو المرجعية التي أنتجتها.
تصريح
إذن مقاربتنا لميثاق التربية والتكوين الذي يعرف المجتمع المغربي ولادته ويتحملها دون أن يعيش مخاضه ويقرره، تندرج داخل هذا المفهوم لاهمية مسألة الهيكلة والتنظيم البيداغوجي لقطاع مصيري لأي دولة تحترم أبناءها وتستشرف مستقبلها. لهذا نقول منذ البداية -رغم كل مجهودنا في إحسان النية- :
- إن تحليلنا سوف ينطلق من منظور الأزمة كمفهوم سوسيولوجي يقرر وجود الأزمة ويعمل على تفكيك أسبابها، ونبرر اختيارنا هذا اعتمادا على الحقائق التالية :
- إن ميثاق التربية والتكوين جاء نتيجة لقرار سياسي همش كل وعي شعبي بالأزمة أو دور أهل الاختصاص والميدان في صناعة الميثاق البديل.
- كانت اللجنة المشرفة على صياغة الميثاق تجمعا سياسيا للأحزاب والنقابات حكمته الارتجالية في اختيار الأعضاء ومنطق (أم لا منطق) التراضي والتوافق على المتناقضات والاملاءات!!، فقد خيمت ظلال الأزمة السياسية وهاجس التواجد على اللجنة وكأن السياسة التعليمية تصنع بالتوافق؟!
- الميثاق المفروض لم يؤسس على أي تقويم سابق ومراجعة مسؤولة رغم أن الخطاب يتحدث عن أزمة عميقة للتعليم، والبديل ينشد مدرسة جديدة، والتعديلات تمس مبادئ التعليم بالمغرب.
- المرجعية العلمانية التغريبية مهيمنة على الميثاق، والطرح الازدواجي للهوية يزيد المسألة ارتباكا وأزمة.
- الميثاق مرّ في صمت -عملا تهريبيا- فلم يتم استشارة لا العاملين في الميدان، ولا أهل الاختصاص، ولم يتم اشراك الأولياء والتلاميذ عبر الاستمارات والطرح الإعلامي، بل إن الميثاق لم يناقش حتى على مستوى البرلمان، فمن أين يستقي شرعيته ومشروعيته وحتى دستوريته؟!.
- وأخيراً، دليل الأزمة هو ندوتنا هذه، فنحن نناقش الميثاق من الخارج، وبعد تمريره، ورغما عن واضعيه،فأي ميثاق يقصدون)) وأي اصلاح يقصدون؟
لكن رغم كل هذا نُصر، من موقع مسؤوليتنا، على المشاركة والتعريف بالميثاق وخلفياته وتجاوز حالة الأزمة وفكر الأزمة الذي أرهق البلاد والعباد.
وصف
نقسم مسألة الهيكلة إلى مقاربتين : مقاربة عمودية وأخرى أفقية، حيث نقصد بالأولى التصاعد المقترح عبر السنوات والأسلاك والجسور والجذوع، ونقصد بالثاني الشُّعَب والتخصصات والهيئات والمجالس والمؤسسات والأنظمة الموازية للهيكلة العامة والعمومية.
وعموماً يمكن التأكيد على أن الهيكلة لم تعرف تغييرا في العمق أما على مستوى الشكل فنلاحظ تجاوز هيكلة التعليم الأساسي والعودة إلى ما قبل اصلاح 85، غير أن بعض التعديلات التي زادت الطين بلة تجعلنا نتحدث عن تراجعات وهيكلة أزمة.
لقد تم فصل التعليم الابتدائي عن الاعدادي ودمج سنتي التعليم الأولي فيه وبعد التعليم الإعدادي (3 سنوات) يأتي التعليم الثانوي بـ3 سنوات أيضا، السنة الأولى جدع مشترك والسنتان الباقيتان مسلك تعليم عام أو مسلك تعليم تكنولوجي ومهني، وتم استهلال التعليم الجامعي بفصل جدوع مشتركة وتقسيمه إلى سلك جامعيأول (5 فصول) وسلك الدكتوراه، ويوازي التعليم الاعدادي والثانوي تكوين مهني وتقني تنتهي بسوق الشغل وكذا أقسام تحضيرية في نهاية التعليم الثانوي.
أما على مستوى الوصف الأفقي فيحافظ الميثاق على التخصصات السابقة مع التأكيد على التخصصات المفرنسة وكذا تعميم الأقسام التحضيرية كما نلاحظ حضور التعليم التقني المهني والتعليم الأصيل والتعليم الحر، في حين سكت الميثاق عن التعليم الأجنبي رغم خطورته. تتضمن الهيكلة الأفقية أيضا إحداث مجلس المؤسسة والحديث عن علاقات مع مؤسسات التكوين المهني والجماعات المحلية والقطاع الخاص وغيرها كشركاء في العملية التعليمية التعلمية، ويتحدث الميثاق أيضا عن إحداث أكاديميات للغة العربية دون أن يوضح علاقتها بمركز التعريب القائم.
وفي ختام هذا التقديم الوَصفي نلفت الانتباه إلى حديث الميثاق عن “سلطة التربية والتكوين” دون الحديث عن أي وزارة، الشيء الذي يعني هيكلة التعليم كله في وزارة واحدة تدعى “وزارة التربية والتكوين” والسؤال الذي يطرح نفسه : لماذا كانت أربع وزارات للتعليم؟ ثم كيف تصبح واحدة بقرار؟!
تحليل
الهيكلة المقترحة تجتر معها أخطاء الماضي، فمع الاستقلال، عوض أن يؤسس التعليم الوطني على مدارس الحركة الوطنية الأصيلة تم اعتماد هيكلة مدارس الاستعمار التي كانت تسمى المدارس الاسلامية!!.. كما سار التعليم الخاص على نمط التعليم الفرنسي، في حين حُصِر التعليم الوطني في دائرة ضيقة مهمشة سميت بالتعليم الأصيل.
كما أنّها تؤكد أخطاء الحاضر خاصة تفكك البنية وعدم فعالية الهياكل والمؤسسات ومجانية التقطيع للأسلاك وفوضى توزيع الشعب وفرض التخصص على التلميذ مبكرا.
كما ندمج في أخطاء الحاضر دوافع هذه الهيكلة ومبرراتها، حيث يمكننا التأكيد على أربعة هواجس غير مقبولة تتحكم مع الأسف في خريطة الهيكلة :
- المبرر المالي وما له علاقةبتنظيم التسرب وعقلنته وتقليص المصاريف وتشجيع التعليم الخاص.
- المبرر اللغوي وما له علاقة بالتحيز للغة الفرنسية والتخبط في الفوضى اللغوية واحتضار اللغة العربية.
- المبرر التقني وما له علاقة بطلب التكنولوجيا وتوسيع التعليم التقني وتفضيل الشعب العلمية في حين أن المطلوب هو تشجيع الحس العلمي عند التلميذ بعيدا عن كل هوس تكنولوجي لا أرضية له.
- المبرر التربوي وما له علاقة بالاستعداد العقلي والنفسي للعقل ونمو قدراته ومعارفه غير أن هذا المبرر يفقد كل معنى بسبب فوضى الهيكلة وضياع التلميذ وسطها.
من هذا المنطلق يمكننا القول عن الهيكلة المفروضة عموما أنها هيكلة بنيوبة مفككة، تعاني من تشتت مكوناتها الداخلية وفوضى التواصل الداخلي بينها، وكذا من ارتجال وارتباك علاقاتها الخارجية بمحيطها ومؤسساته. فهي هيكلة نمطية تكبلها البيروقراطية والشكلانية وغياب الوظيفة الدقيقة والتأهيل المؤسساتي الفعال، ويمكننا أن نركز على الأمثلة التالية :
- على مستوى الهيكلة العمودية :
ü اقحام التعليم الأولي في الهيكلة واعتماد نتائجه رغم عدم تحكم الدولة فيه، فالتعليم الأولي في غالبه (أكثر من 95%) تعليم حر، فكيف نتخذه مقياسا لتفضيل تلميذ على تلميذ. خاصة امكانية تجاوز المستوى الأول أو الثاني مباشرة، إنه منطق الانتقاء وغياب تكافئ الفرص.
ü تخصيص شهادة في نهاية التعليم الابتدائي لا معنى له إلا الإشارة إلى تشجيع التسرب والطرد المبكر دون تعليم يؤهل.
ü وجود التعليم التقني على هامش التعليم الإعدادي والثانوي يسير في نفس المنطق السابق الذي لا ينظر إلى التكوين المهني على أنه نظام تعليمي متكامل بل هو مجرد جهاز لإلهاء التلميذ وتسويغ طرده أو تسربه.
ü إحداث جدع مشترك في السنة الأولى من التعليم الثانوي مسألة مهمة تعفي من التخصص المبكر الذي يصدم التلميذ غير أننا نسجل فوضى التخصصات خاصة على المستوى التقني وعدم تأطير التخصص الأدبي رغم تسليمنا بالنسبة القليلة المخصصة له.
ü الازدواجية اللغوية رغم نفس التخصص جريمة في حق وحدة المجتمع والتأكيد على هيمنة اللغة الفرنسية بما أن المرجع أصبح لغة التعليم العالي (اللغة الفرنسية).
ü تخصيص أقسام خاصة للمتفوقين في الثانوي أمر مفهوم إذا كان الدافع إليه تشجيع الطاقات والتلاميذ المتفوقين وليس المحدد والموجه هو اللغة أو القدرة المالية.
- على مستوى الهيكلة الأفقية:
ü غياب جهاز للأنشطة الموازية بالمؤسسة ومتفرغين لذلك في إطار “مشروع المؤسسة”. إذا كان الميثاق فعلا يستهدف ابداع التلميذ وانفتاحه.
ü غياب جهاز متكامل للدعم له أقسامه وأساتذته يتقاطع مع الأسلاك العامة فيأخذ منها ويرجع إليها التلاميذ الذين تحسن مستواهم.
ü غياب البعد التعليمي لنظام التكوين المهني حتى يتمكن والجه من متابعة دراسته.
ü غياب نظام علمي للتوجيه والاعلام حيث كرر الميثاق نفس مضمون المذكرة الغامضة التي تنظم هذا المجال الحيوي. فلابد للتوجيه أن يلازم التلميذ منذ التعليم الأولي ويكون له ارتباط وثيق بالتلميذ والخريطة المدرسية.
ü يتحدث الميثاق عن مؤسسات ينسق معها كالتكوين المهني والجماعات المحلية والقطاع الخاص، في حين أن هذه القطاعات بذاتها تعاني الأزمة والتفكك، فكيف نؤسس ميثاقا على قطاعات لا تضمن مستوى مشاركتها؟!
هذه ملاحظات عامة حول هيكلة ميثاق التربية والتكوين نختمها باقتراح هيكلة نسقية مفتوحة ومندمجة تتميز بحركيتها وتواصلها الداخلي المرن وعلاقاتها الخارجية الطبيعية والدائمة. وهذا عوض الهيكلة البنيوية الجامدة، بهذا يكون للمدرس والتلميذ ومؤسسة أولياء التلاميذ الدور الأساسي في تفعيل التعليم وتطويره وهذا ما يفتقده تعليمنا الحالي والميثاق المقترح.
إن هيكلة التعليم هو في ختامه هيكلة للمجتمع في مستقبله. فالازدواجية الثقافية والفوضى اللغوية والتفاوت الاهتمامي وضعف التأهيل الإجتماعي لمهنة أو وظيفة كلها أمراض اجتماعية هيكلية سببها هيكلة التعليم التي مر منها هذا التلميذ/المواطن.
ذ. مصطفى شعايب
مستشار في التوجيه التربوي