وستبقى خطبة الجمعة عطاء يتجدد رغم حقد الحاقدين


أولا- دور المسجد :

إن المسجد في الإسلام هو المعقل الحصين الذي استعصم به الدين والعلم والفقه والحكمة، ولقد كان المسجد دوما المركز الديني الذي تدار فيه شؤون المسلمين الدينية منها والدنيوية من جهاد وقضاء ومشورة بين المسلمين وغير ذلك، وإن المسجد هو وحده البقية الباقية من أصالتنا وثراتنا ومجدنا بعد النكسة التي يعيشها المسلمون والانحطاط والاستعمار القديم والجديد. ولقد وقف المسجد قديما وسوف يقف بإذن الله أمام كيد الكائدين، وبطش المستعمرين، ومخططات المتغربين الذين يعملون دوما على علمنة الدروس والمواعظ والخطب التي يلقيها الأئمة والخطباء الواعون كل الوعي بدورهم ومهمتهم النبيلة.

ثانيا- مكانة الخطيب :

إن الخطيب نائب في مهمته هذه عن الرسل والأنبياء، إن مهمة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى يصطفي لها الحقسبحانه وتعالى أحباءه وأقرباءه ولذلك حينما خاطب الحق سبحانه وتعالى نبيه ابراهيم عليه السلام بقوله في سورة البقرة : {إني جاعلك للناس إماما} تمنى نبي الله ابراهيم أن يكون كل من يخرج من صلبه إماما للناس لتقديره لهذه المهمة العظيمة فقال : {ومن ذريتي} فرد عليه الله سبحانه وتعالى : {لا ينال عهدي الظالمين} (البقرة : 123). فالذي يكتم الحق ولا يصدع به في وجه المعتدين، ويتهاون في تبليغ كلمة الله لا يصلح لهذه المهمة النبيلة، ومن تم كانت امامة الناس شرفا ما بعدها شرف، وكان الإمام يتمتع بالحصانة الربانية قال تعالى : {ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} (فصلت : 32)، إن عناية الله ستبقى مع العلماء العاملين والأئمة والوعاظ والخطباء المخلصين الذين لم يخشوا في الله لومة لائم يبلغون كلمة الله بالحكمة والموعظمة الحسنة غير هيابين ولا وجلين قدوتهم في ذلك دعوات الرسل والأنبياء والصالحون، ومنطلقون من هموم الناس ومشاغلهم، ممتثلون قوله تعالى : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}(النحل : 125). وقوله سبحانه : {فاصدع بما تومر وأعرض عن المشركين}(الحجر : 94). بعيدون كل البعد عن أساليب القذف والشتم والتشهير، شعارهم “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون” وقوله سبحانه : {خذ العفو، وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين}(الأعراف : 199).

إن الخطيب والواعظ والداعي إلى الله سبحانه وتعالى قد باع نفسه لله، وانتدبها للنصح والإرشاد، ومن كان كذلك لا يثنيه أي أحد عن القيام بواجبه ولن يستطيع أي أحد فعل ذلك ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل حين أنشد وهو يتحدث عن جسده بعد أن سجن من أجل مواقفه الثابتة فكان مما قال :

سيكون للديدان في غَدِ

فاجلده يا سبحان أو لا تجلد

قد بعته لله والله اشترى

ومن اشتراه الله لم يتردد

حق على العلماء أن لا يكتموا

ما جاء في القرآن أو في المسند

ثالثا- لابد من واقعية الخطبة ومسايرتها لأحوال الناس :

ولعل من حكمة فرض الجمعة مرة في الأسبوع هو الحديث في الخطبة عن كل ما جد من العلل الخلقية ومستجدات تهم البيئة المحلية للمخاطبين أو الوطن أو الأمة الإسلامية.

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يراعي هذه الواقعية في خطبة فيقول : ما بال قوم قالوا كذا وكذا، وفعلوا كذا وكذا، وذلك عندما يعلم أن أمرا حدث أو شاع بين الناس حتى أصبح حديث القوم غير أنه كان لا يعين أحدا بالذات ولا يسميه احتراما للشعور وتعميما للفائدة، لذلك الخطيب لابد أن يساير ظروف الناس وواقعهم، وعليه أن يتكلم بلسانهم وبما يحسون وأما أن يتحدث في واد والناس يعيشون في واد فإن ذلك غفلة ما بعدها غفلة.

فكيف إذن والبلاد كلها تعج بنقاش حاد في جل وسائل الإعلام حول موضوع من صميم الدين وهو موضوع الأسرة التي تحدث القرآن الكريم والسنة النبوية عن تنظيم أسسها بتفصيل كيف يريد البعض أن لا يبدي الخطيب في هذا الأمر رأي الإسلام والناس يكادون يسألون حوله باستمرار، كيف يدعي البعض بأن موضوع المرأة والأسرة موضوعا سياسيا لا ينبغي للخطيب والواعظ الخوض فيه لِم لم يعترض هؤلاء حين كان الخطباء يسايرون البرنامج الحكومي من قبل فتحدثوا عن التكافل الاجتماعي والإحسان إلى المعاقين وحقوق الطفل والبيئة والحملة الوطنية للتلقيح ومحو الأمية وتشجيع التمدرس وعن الرعاية بالمسنين والعجزة والتضامن مع الفقراء والرشوة وذكرى وفاة المغفور له محمد الخامس وثورة الملك والشعب وذكرى عيد العرش والاستقلال وتقديم وثيقة الاستقلال وغير ذلك، أليست كل هذه المواضيع وغيرها سياسية؟ أين كان هؤلاء المنتقدون؟.

سامحهم الله وهداهم إلى الصواب أولئك الذين يرغبون في تحجيم دور المسجد وتكميم أفواه الخطباء وتشويه سمعتهم وتحريض المسؤولين ضدهم، ليتهم علموا أن السيد وزير الأوقاف والشؤون الاسلامية وهو الفقيه العالم المتبصر لا تنطوي عليه مثل تلك المغالطات إذ قدم ولازال يقدم لهذا البلد وللإسلام الخير الكثير بوقفاته الشجاعة والثابتة ضد كل أشكال الانزلاق والتطرف، ثم ليتهم علموا أن الأئمة والخطباء يمثلون الإمام الأعظم في مهمتهم النبيلة، فأملنا أن لا يتجاوز التهجم عليهم وعلى شخص وزير الأوقاف إلى من هو أعلى!!؟

إن خطباءنا والحمد لله يقومون بواجبهم الدعوي امتثالا لأمر ربهم، ولا يلتفتون إلى حماقة الحمقى، ولا إلى سفاهة السفهاء، فإذا جهل عليهم الجاهلون يعفون ويصفحون لا عن ضعف بل عن ترفع، ولا عن عجز وإنما عن استعلاء، ولذلك قيل : إن من البلاغة السكوت.

وإن افاد السكوت كان السكوت كلاما

وإن اهين كريم بالسب قال سلاما

قال تعالى : {وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}(الفرقان ) وليس الجهل هنا ضد العلم ولكن المقصود هو الجهل ضد الحلم، فالجاهل السفيه قد يحمل شهادة عالية، وقد يبلغ أرفع المناصب ولكنه جاهل في نفسه كما يقول الشيخ يوسف القرضاوي لأنه قد يكون له حلم وإنما يكتب به في الصحف وغيرها ولكنه يسخرها ويمكنها من اعراض الناس الشرفاء.

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ألم يعلم هؤلاء الثرثارون أن الخطباء مشغولون بأمر أمتهم وآخرتهم، ليسوا مشغولين بالانتصار للنفس، فهم يخطبون لحق الله وحق الأمة ولا يشغلون أنفسهم بالمعارك الجزئية وإنما يشغلون أنفسهم بمعركة الإسلام والوجود الإسلامي. فالدنيا أهون من أن يتعارك عليها الناس لأنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، هكذا هم خطباؤنا ودعاتنا والحمد لله، نفتخر بهم ونقرهم ونجلهم فهم أساتذتنا ومعلمونا ينطلقون من همومنا وأحزاننا، والمرأة أمنا واختنا وزوجتنا وتحدث القرآن الكريم والسنة النبوية عن حقوقها، وعلماؤنا وحدهم هم المؤهلون لتوضيح أحكام الشرع التي تخصها. ورحم الله الملك الحسن الثاني حين قال في كلمته التوجيهية التي ألقاها في مؤتمر الخطباء المنعقد بفاس سنة 1987م والتي ينبغي أن تكون درسا بليغا لكل متغرّب ومُعَلْمن والتي يحدد فيها دور الخطيب ومجال حديثه بكل وضوح فقال : “على الخطباء أن ينظروا إلى مصير مجموعتهم وفي بلدهم وفي قارتهم وفي العالم الإسلامي، فبالنسبة للمشاكل العليا التي تعترضنا والتي نحكم عليها حكما صارما بأن ندلي برأينا، وأن نقف موقفنا، وبأن نتخذ مسؤولياتنا في الرأي وفي الحكم، فيجب على جميع المسلمين كيفما كانت مذاهبهم أن تكون وقفتهم واحدة أمام الخطر النووي، أمام المخدرات، أمام الجوع، أمام عدم التكافل بين الأغنياء وبين الفقراء، يجب أن تكون نظرتهم واحدة فيما يخص الحوار الشمالي الجنوبي، عليهم أن يكون موقفهم واحدا بالنسبة للغزو الاديولوجي الذي يحاول أن يفتت لا أعصابنافقط بل هياكلنا”(الملتقى العالمي الأول لخطباء الجمعة بفاس سنة 1987). وأي غزو اديولوجي أكبر من هذا الغزو الذي يريد أن ينقض على البقية الباقية من أصالتنا وكياننا.

رابعا- عواقب السكوت عن المنكر :

إنه بالسكوت عن المنكر زالت حلقات الإسلام حلقة حلقة حتى وصل المسلمون إلى ما وصلوا إليه من الهزائم. يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : “كان في ابطال الأخف جرأة على ما هو آكد منه، ومدخل إلى الإخلال به.. فالمتجرئ على الأخف بالاخلال معرض للتجرؤ على ما سواه، فكذلك المتجرئ على الاخلال بها يتجرأ على الضروريات”(الموافقات للشاطبي).

هكذا تم السكوت على الجزئيات فتم الاجهاز على الضروريات وأساسيات هذا الدين، لقد عمل أعداء الإسلام عبر التاريخ من شياطين الإنس والجن من المتغربين واتباعهم ومن سار في فلكهم من أصحاب الدعوات الالحادية والتيارات المستوردة إلى هدم الإسلام حجرا حجرا، ولبنة لبنة،حتى لا يبقى منه إلا الاسم. فتقطعت أحكام الإسلام قطعة قطعة، كما تم تمزيق بلاد المسلمين وتقطيعها قطعة قطعة، آخر ذلك ما وقع في أندونيسيا والشيشان وفلسطين وكوسوفا والبوسنة وما يراد لبلادنا في الصحراء وغيرها.

لقد دأب أعداء الإسلام من الخلف على التلفيق والتضليل، والضحك على أصحاب النفوس الضعيفة، فيوحون إليهم بترك الأمور السهلة والبسيطة في الدين بحجة الاهتمام بالمهم والتقيد بالأهم، وهي كلمة حق أريد بها باطل، فهم يريدون من المسلمين تخريب بيوتهم بأيديهم وذلك ما نبه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بالضبط في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن فيروز الديلمي مرفوعا : ((لينقضن عرا الاسلام عروة عروة كما ينقض الحبل قوة قوة))، وقوله كذلك فيما رواه أحمد وابن حبان عن ابن أمامة الباهلي رضي الله عنه : ((لينقض عرا الإسلام عروة عروة، كلما انقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة)).

وبهذه الطريقة التي صورها رسول الله صلى الله عليه وسلم تتقطع أوامر الدين وفرائض الإسلام وأحكام الشرع، وينحصر الدين في العبادات كما يريد أصحاب الخطة المشؤومة  للمرأة وكذا ما سمي بالميثاق الوطني للتربية والتكوين المعلمن.

لكن بإذن الله ستبقى خطبة الجمعة عطاء يتجدد رغم حقد الحاقدين.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>