مع كتاب الله تعالى : تفسير سورة التحريم 28 >ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ماأمرهم ويفعلون مايومرون))


-1 ملء الفراغ بثقافة الكفر ضيّع البلاد :

أعداء الإسلام تفطنوا إلى هذه القضية، قضية التفريغ والملء بما يشاؤون، والضحية الأولى هي الإسلام، ذهبت ثقافة الإسلام فأتت بعدها الماركسية و.. وأصبح الناس يلهجون بأسماء هؤلاء الزعماء، ولا يعنيهم أو يهمهم أن يكون قائدهم كافراً أو يهوديا أو ملحداً المهم أنه أخونا ورفيقنا في المذهب، ومن أجل هذه الفكرة المادية الخبيثة التي ترسخت في أذهاننا ضاعت للمسلمين كل بلادهم، وكل أراضيهم، المسلمون أو العرب بالأخص هم الذين سلموا فلسطين بمحض إرادتهم، وباعتقادهم أن إسرائيل تلتقي معهم على أنها جماعة مسحوقة مظلومة، فكثير من التقدميين العرب يرون أن اسرائيل يجب أن تُناصر لأنها مسحوقة ككل المسحوقين حتى تمكنت، وأخذت الأرض والبلاد، وتقوت وحينئذ ظهرت إسرائيل تمثل الآن قمة الإقطاع وقمة العسف والظلم في العالم، على كل حال هذا أمر حدث بسبب إزاحة الدين، بسبب التفريغ، فصار المجال متسعا لأن يَرِد أي وارد.

-2 ملء الفراغ بالخرافات أيضا ساعد المستعمر ومكّن له :

وإذا كانت هذه الفئة (المثقفة) من أبناء الشعوب الإسلامية قد سهل عليها التخلي عن دينها والتشبت بالمذاهب الجديدة، فإن في الشعوب الإسلامية كثيراً من الناس يتمسكون بدينهم ويصعب عليهم أن يقرأوا المادية التاريخية وأن يفهموا ماركس وغيره، ودفاتر الديالكتيك كالإنسان العادي في البادية الذي لا يستطيع أن يعرف هذه الأشياء،  فماذا يمكن أن يُفعل مع هؤلاء؟ لقد لجأ الاستعمار إلى أسلوب آخر، وهو أسلوب التعويض، حيث حارب جميع مظاهر التديّن الصحيح، فمنع بعض كتب التفاسير وأصدر أحكاماً قاسية في حق من وُجدت عنده بعض هذه الكتب كجواهر القرآن للطنطاوي وغيره لذلك كان الناس يشترونها في خفية وتستّر شديدين حتى لا يعلم الأعداء والخصوم والمخبرون بوجود الكتاب الفلاني عند فلان، ومن وجدت عنده يؤدي ثمناً باهضاً، في المقابل كان الاستعمار يشجع على البدعة، وعلى الخرافة وعلى الخزعبلات، ومنها أن الأروبيين بعد أن ملكوا الأرض وعمروها قد لاحظوا أن هؤلاء البقايا من المسلمين يحترمون الأضرحة ويخافون من الأضرحة لأنها تعاقب عقوبة معجّلة، فأصبح أصحاب المزارع الكبرى يحدثون -عن قصد- أضرحة على أطراف مزارعهم دون أن يدفن فيها أحد، بل ربما مات لأحدهم كلب أو حمارٌ فدفنه هناك، وقد وقع هذا -فيأتي أولئك البسطاء والسُّذَّج -ليلا- يريدون أن يسرقوا ثمرات ذلك البستان، فإذا عرفوا أن البستان قريب من ضريح سيدي فلان، فإنهم يكفون عنه ولا يسرقونه، ويسرقون البستان الآخر الذي لا يحرصه ضريح.

كثرت الأضرحة عندنا وأدّت دوراً مزدوجاً : حراسة ممتلكات المعمرين : وفي نفس الوقت يعطي تعويضا عن الدين الحقيقي حيث انتشرت البدع والضلالات، ولازال هذا الاتجاه ماضيا إلى الآن حيث يسعى خصوم الإسلام إلى امتصاص روح التدين عند الناس، وإفراغها في قوالب من البدع والضلالات، وتصوير ذلك كله على أساس أنه هو الدين.

-3 ملء الفراغ بالبدع والطرقية عرقل تيار الصحوة :

الآن هناك نهضة دينية، صحوة إسلامية تفرض نفسها، هذه الصحوة الإسلامية كيف تُضبَط؟ إن الصحوة الإسلامية هي تغيير هادئ ومستمر للحياة ولكثير من التصرفات، لكن أعداء الإسلام لن يسرّهم هذا الأمر لأن المسلمين سيشرعون في استعادة الوعي، وسيرفضون كثيراً من الممارسات وسينتقدون كثيراً من الأوضاع لذلك أحْدَث المستعمر في طريق الصحوة قنوات الإلهاء باسم الدين، فدعّمها وشجعها وجعلها تتزيّن بزيّ الدين، وتصوِّرُ للناس أن البدعة والضلال هي الدين. ولتحقيق هذا الغرض أُقْفِلت المساجد فأصبحت لا تؤدي دورها العلمي، واختير للمنابر خطباء لا يهمهم إلا الدريهمات التي يتقاضونها في آخر الشهر.

وهذا نوع من قتل الدين بطريقة خاصة تُرْضِي حتى بعض المتدينين الذين وجدوا ضالتهم في الشيوخ المعصومين في نظرهم من الخطإ مع العلم أن هذا مخالف للكتاب والسنة وعمل الصحابة جميعا.. علينا -عباد الله- أن نقرأ كتب الإسلام، حتى لا نكون مغفلين، فإذا كان الناس يقفون في وجه عمر، ويقولون له : لو وجدنا فيك اعوجاجا لقومناك بسيوفنا، وهو الذي يقول (وافقت ربّي في ثلاث)، وقال العلماء : إن القرآن وافق عمر في خمس وثلاثين مسألة)، وإذا كان أبو بكر ينتقد عليه عمر بن الخطاب أشياء مهمة ويقبلها، مع أن منزلة أبي بكر لم يَحْظ بها أي واحد في الإسلام، لا عمر ولا غيره، أبو بكر دائما كان في الدرجة الثانية : ثاني اثنين في الإسلام، ثاني رجل أسلم،ثاني رجل في الغار، ثاني رجل في المشورة يوم بدر، ثاني رجل في الهجرة، ثاني رجل في القبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك كان الصحابة ينتقدون عليه، وإذا كان الأئمة يقولون : كل رجل يُوخذ من كلامه ويُرد إلا صاحب هذا القبر، ويعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام مالك هذا، وقاله غيره بأساليب متعددة.

كيف نترك هذه الحقيقة جانباً، ونتّبع من يشترط علينا ألا ننتقده، هذه هي العِصْمة الخاصة بالرسل، إن هذا الفساد في العقيدة نجد مظاهره في أنواع من الخرافات والتفاهات وأشياء غريبة جداً نقرأها في بعض الكتب التي لا تمثل روح التدين التي سادت المسلمين في أيامهم الذهبية، والتي أوصلتهم إلى أوج الحضارة، والتي جعلتهم يجاهدون وينقلون هذا الإسلام إلى باقي الأقطار.

-4 ملء الفراغ باللّهو العابث فساد في فساد :

وملء الفراغ بوسائل الاستراحة والاستجمام المباح لا ينكره الإسلام شريطة أن تكون هذه الاستراحة مدروسة، إذا استراح المسلم فإنه يتفكّه ويلعب لعباً هادفاً لا يخرج به عن دائرة الإسلام وفلسفة الاسلام، بل حتى الوقت الذي يقضيه في الاستراحة ينبغي أن يكون وقتاً محدداً، مضبوطاً لا يستغرق عمر الإنسان كله. أما ملء الفراغ باللهو واللعب بدون هدف وبدون ضابط، وبدون حراسة ورقابة خلقية فذلك هو الفساد الكبير.

-5 ملء الفراغ باللهاث الجنسي هو الطامة الكبرى :

إذا كانت الكنيسة سابقا تجاهلت -في الظاهر- الغريزة الجنسية، وترهبنت -كاذبة- فإننا نلاحظ أن الكنيسة صححت نفسها وعادت إلى ما شرعه الإسلام من إباحة الزواج، وهي فطرة في الناس نظمها الإسلام وضبطها بقواعد وضوابط، وفي المقابل حرّم الإسلام فوضى الجنس وحرّم التهالك على الشهوات الذي أدى بالناس إلى ما تعلمون من الآفات والمهالك.

وسبب التهافت الجنسي ما أشاعه اليهودي فرويد من مفاهيم جنسية، فهو كان يرى أن العامل الأساسي في تصرف الإنسان هو الغريزة الجنسية، وكان يرى أن الجنس يبدأ في الإنسان مبكراً من مرحلة الرضاع، فالرضيع حينما يرضع ثدي أمه يتلذذ عن طريق الشفتين، وإذا كبر قليلا يتلذذ عن طريق التبرُّز، إذا كبر أكثر يتلذذ عن طريق اللعب بأعضائه التناسلية، وإذا كبر في المرحلة الرابعة يصير مراهقا وحينئذ يباشر الجنس بطريقة أخرى، هاته الكذبة التي قالها فرويد والتي عزا إليها جميع تصرفات الإنسان، وجعل الغريزة الجنسية أخطر الغرائز، هي التي سببت الإباحية للشباب المسلم، لأن الشباب يخرج من بيته إلى المؤسسة، إلى الجامعة وفي نظره أن الجنس إما أن يُلَبَّى وإما أن ينفجِر هذا الإنسان ويُدَمَّر، لذلك يخرج وفي اعتقاده أنه يجب أن يطلب الجنس، لا أن يطلب العلم لأنه إن ظفر بالجنس استراح ونجا من العقد، حتى أصبح الشباب يُعيّر بعضهم بعضا بالعفَّة، ويقولون للعفيف أنت رجل مكبوت، وللعفيفة أنتِ معقدة.

إن علماء الاجتماع حينما تحدثوا عن العوامل التي تؤثر في حياة سلوك الأفراد، ردّ بعضهم هذا إلى عامل أساسي، وهو حبّ التفوق، وفسروا كثيرا من سلوكات الناس بكثير من هذا الأمر، وقالوا إن الإنسان من طبيعته أنه يحب التفوق، وكثير من الإنجازات الحضارية الكبرى إنما الباعث عليها هو حبّ التفوق، فالذي صار أعلم العلماء فعل ذلك لأنه اجتهد حتى يُنَمِّي في نفسه حب التفوق، والذين أنشأوا العمارات الشامخة وناطحات السحاب أرادوا أن يثبتوا لأنفسهم أنهم متفوقون على الآخرين، والذين أنشأوا الأهرامات أبانوا أنهم متفوقون. وطبعا هذه نظريات متعددة في فهم التاريخ، ليست هناك نظرية فرويد وحدها.

ومع الأسف الشديد شبابنا لا يعرف إلا هذه النظرية الفاسدة، إذاً فعندنا نزوع فطري إلى التفوق والظهور، هذا جميل.. والإسلام لا يلغيه وإنما يعترف به وينظمه، فيقول : >سَارِعُوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض)) فشيء جميل أن تتنافس على احتلال المرتبة الأولى، ولكن ليس في كل شيء، لا يشرفك أن تحْمِل المرتبة الأولى في التعاطي إلى المخدرات أو في النوم والكسل والخمول، لذلك اعتنى الإسلام بتوجيه هذا السلوك إلى الجانب الإيجابي، فأمر الإسلام بالمسابقة في الخير حتى يُعْرف أيّنا أكثر عبادة، أيّنا أكثر فضلا، أيُّنا أكثر تحصيلا للعلم.. لو قرأتم حياة الصحابة والذين جاءوا بعدهم لوجدتموها فعلا حركة دائبة، ومسابقة مستديمة من أجل تحقيق الفضائل الإنسانية، إن الأمة الإسلامية كلها كانت لا تقنع بالقليل في مجال الحصول على الفضل، كان كل واحد يريد أن يكون أكثر الناس عبادة، وأحسنهم طُهراً وزكاة، وأكثرهم صفاء، ولذلك نهض المجتمع، وصار مجتمع الفضلاء والأخيار. وهذا نزوع لم يُخفه الإسلام، ولكنه في نفس الوقت لم يتركه همَلاً، بل ضبطه.

-6 من وسائل التربية السمو بعاطفة الحب والكره :

فينا نزوع إلى الحبّ وإلى الكره، كلنا يحب وكلنا يكره، عاطفة الحبّ هذبها الإسلام وشذّبها، لأن الإنسان يمكن أن يحب أي شيء، ومن الكوارث العظمى في تاريخ البشرية أن يحب الإنسان نفسه فتنشأ عنده الأنانية والأثرة، ولا يقبل رأيا آخر، بل إن علماء النفس يسمون إحدى الأمراض بالنرجسية، ويمثلون له بقصة أسطورة النرجسة التي كانت على شاطئ النهر فنظرت إلى نفسها فأحبت نفسها، فالإنسان يمكن أن يصير محباً لذاته، عاشقا لها، ويصبح مزهواً فخوراً، ويعيش في أوهام وفي خرافات، إن الحب يمكن أن يضبط، وقد ضبطه الشرع، فجعل أول ما يُحب هو الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكتابه والأبوان والفئة المؤمنة، وكُلُّ قيم الخير يجب على المؤمن أن يحبها ولذلك نحن نعبد الله بالحب كما نعبده بالصلاة والصيام والزكاة  >لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من نفسه وولده…)) >لا ىؤمن أحدكم حتى يحبلأخيه ما يحب لنفسه)) لذلك فالحب أيضا يدخل في العبادات. وهذا الحب إن لم يتجه إلى هذا صار من مثل الحب الهابط الذي تسمعون عنه، وهذه الأشياء التي يتعلق بها الشباب ولا يحصلون منها على طائل، وربما أضاعوا على أنفسهم وقتا ولم ترتفع أنفسهم إلى نفس المستوى الذي يريده الإسلام لهم.

كذلك الكره، فالإنسان من طبيعته أن يكره، ولكن أي شيء يكره، يجب أن توجه الكراهية عنده إلى ما ينبغي أن يُكره فعلا، فليكْرَهْ الشر، والنموذج الذي نكرهه هو الشيطان لعنه الله، ولْيَكره كُلّ شيء ويخالف تعاليم الدين، نَكْرَهُ ما نُؤجَرُ على كراهيته، فكراهية الإنسان للفسق وأصحابه والإجرام وأهله، وأعداء الله، جزءٌ مما يُعبد به الله تعالى أيضا.

وهكذا فإن الإنسان له طاقات يجب أن تفرّغ وتوجّه وتستغل فيما ينفع ولا يضر، ولكن تربيتنا للأسف، ربما تتجاهل هذه الأشياء، فقد نتعامل مع الصبي متجاهلين أن  له نزوعا إلى اللعب، الصبي بطبيعته يحب أن يلعب، التربية الرشيدة هي التي تعترف بأن من حق الصبي أن يلعب. الصبي إذا حمل على مسالك الكبار لا يمكن أن يكون سلوكه سوِياً. قد يلعب ولكن أي لعب؟ يلعب ما يناسب التربية، يمارس لعباً مهذباً، لعباً يتهيأ به للجهاد فيما بعد، لعباً يقوي صلته بالمؤمنين، أما اللعب الذي هو لذات اللعب أو يؤدي إلى نتائج سيئة، فالإسلام لا يمكن أن يأذن به مطلقا، وأنتم تعلمون أن فقهاء الإسلام حسموا منذ القديم في اللعب الذي يتَسَبَّب في إضاعة الوقت، ويلهي عن الصلاة ويؤدي إلى الخصومات كالقمار الذي يخلق نزعة الكراهية بين المتقامرين والحقد وحب الاستيلاء على ما يتقامرون عليه بأي وسيلة ولو أدى الأمر إلى إذاية الآخر،..

المسملون لمّا دخلوا إلى الأندلس، وجدوا الإسبان يمارسون أنواعا من اللعب منها مصارعة التيران التي تمارس إلى الآن، وكان بعض المسلمين في الأندلس يمارس هذه اللعبة وكانوا أبرع من الإسبان حسب ما كتبه بعض الكتاب، حتى أنهم كانوا يلعبون بالقفطان الواسع عوض اللباس الضيق، وهذا أمر غريب، ومع ذلك فقد أفتى علماء المسلمين بأن هذ اللعب لا يجوز مطلقا لما فيه من تعذيب للحيوان، وتعليم القسوة وتعوّد عليها، فمن شاء أن يلعب فلا يُمَثّل بهذا الحيوان.

وإن شئت أن تذبح الحيوان فأحسن الذبح أما أن  تطعنه على ظهره وتترك دماءه تشخُب حتى ينزف ثم تعتبر نفسك قد انتصرت عليه، فهذا كان انتصاراً على الحيوان وهو هزيمة لك، وهزيمة للقيم والأخلاق الإنسانية.

وإذا نظرنا إلى الألعاب التي تمارس الآن على المستوى العالمي نجد أكثرها لا يقبله الإسلام، ما معنى أنك تقابل خصمك وتركز في ضربك على لكمات توجهها إلى وجهه، وأنتم تعرفون أن كبار الملاكمين يصابون بشلل في نهاية المطاف، ها أنتم ترون الملاكم العالمي محمد علي أصبح يرتجف ولا يستطيع أن يستقر، هذا لعب لا يمكن أن يقبله الإسلام . وفي المقابل فالإسلام يبيح تلبية حاجة الإنسان في اللعب، ولكن بما يعود عليه بالنفع، وبما يفيد جسمه وعقله.

د. مصطفى بن حمزة

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>