شخصيات معاصرة كتب عنها الفقيد


-2 الأستاذ الشهيد سيد قطب

لقد كانت معرفتي للأستاذ سيد قطب في مهد الاسلام ومهبط الوحي، ولم تكن معرفة زيارة ولقاء، إنما كانت معرفة علمية فكرية، كانت عن طريق كتابه القيم “العدالة الاجتماعية في الاسلام” وقد تأخرت هذه المعرفة إلى 1950م وكان من المعقول المتوقع أن تبكر وتتقدم على هذه السنة بسنين، فقد كنت متصلا بركب الثقافة الاسلامية في الشرق العربي، أحرص على أن أسايره ولا أتخلف عنه، وكنت نهما لكل ما تنشره المطابع، وتصدره المكتبات في مصر من غث وسمين، فقرأت للدكتور محمد حسين، والأستاذ العقاد، والدكتور أحمد أمين، والدكتور محمد حسين هيكل، والأستاذ أحمد حسن الزيات، وقبلهم للمنفلوطي والرافعي، وكنت ملتزما بمطالعة “الرسالة” و”الثقافة” الأسبوعيتين، وهما مدرستان أدبيتان تختلفان في الأسلوب والمنهج، وتتوزعان أدباء مصر الكاتبين، وحملة الأقلام الناشئين، وتعرفت على كتاب هاتين المجلتين الذين كانوا ينضمون إلى أحد هذين اللوائين الأدبيين، وكانت تمر بي مقالات في الرسالة، لكاتب اسمه سيد قطب يكتب كثيراً في النقد الأدبي وفي مناقشة الآراء الأدبية، ونقد الآثار والأساليب العربية، فكنت أعرف أنه تلميذ لامع من تلاميذ مدرسة العقاد وأحد المدافعين عنه والناقدين لخصومه.

وأراد الله أن تكون أول معرفتي به، معرفة عميقة في رحاب البيت وظلال الكعبة، فيكون نبتا كريما في منبت كريم “والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه”(الأعراف : 58) وكان من خبر هذه المعرفة أن صديقي الأستاذ أديب الحجاز “أحمد عبد الغفور عطار” كان من كبار المعجبين بالأستاذ العقاد، والأستاذ سيد قطب، وكان معجباً بالأستاذ سيد قطب الأديب والانسان، وكان كثير الحديث عنهما شأن المحب، وجمعتنا رحلة إلى الطائف وذلك في أول شتاء عام 1950م، وكنا زملاء في هذه الرحلة الممتعة المسلية نتحدث ونتذكر، وقضينا في هذا المصيف اللطيف، عدة أيام، وكان الأستاذ قد قدم إلي كتاب “العدالة الاجتماعية في الاسلام” وعكفت على مطالعته في هذا الجو الهادئ اللطيف، فوجدت فيه أسلوباً جديداً من الكتابة والبحث والعرض لم أجده في كتابات الكتاب الاسلاميين، وخاصة في الكتاب العرب، وذلك يحتاج إلى شيء من التفصيل.

إن الذي يقرأ بحوث الكتاب المسلمين -في لغات الشرق وفي بعض اللغات الغربية- الذين نبغوا واشتهروا بعد منتصف القرن التاسع عشر المسيحي، سواء أكانوا في مصر أو في الهند، أو في تركيا، أو في إيران، يشعر بأنهم واقفون في “قفص الاتهام” يدافعون عن قضية أو شخصية يكتنفها الشيء الكثير من الغموض والالتواء، وتكثر حولها الريب والتهم، وفي موقفها ضعف وفي حججها وهن وانثلام، فغاية توفيقهم ونجاحهم أن يتغاضى الخصوم عن بعض الهنات وعن بعض الحلقات المفقودة في البحث، فيلاحظوا في حكمهم الذي سيصدرونه اختلاف الزمان والمكان، والمشكلات التي كانت تعانيها هذه الدعوة أو الشخصية، وأنه كان أقصى ما كان يمكن الوصول إلىه في تلك الملابسات والأجواء. هذا الأسلوب الذي يصح أن يسمى “الأسلوب الاعتذاري” (Apologetic) أو “الأسلوب الدفاعي” (Defensive).

وقد كان من زعماء هذا الأسلوب في مصر الشيخ محمد عبده -سامحه الله- ورفاعة بك الطهطاوي، وقاسم أمين، على اختلاف درجاتهم ومستوياتهم، ومن زعمائه في الهند سر سيد أحمد خان، والسيد أمير علي، وصلاح الدين خدابخش ومنشي جراغ علي، وغيره.، وقد نهج نهجهم الأستاذ محمد علي اللاهوري، وخواجه كمال الدين في قليل أو كثير.

وكان هؤلاء السادة -بحكم ثقافتهم ونشأتهم، وبقوة نفوذ الحكومة الانجليزية السياسي، وكون الحضارة الغربية في نظرهم قضية بديهية لا تقبل نظراً ولا جدلا، وكونها آخر ما وصل إليه العلم البشري والعقل البشري -لا يفكرون في نقد الحضارة الغربيةوقيمها ومفاهيمها ومناقشتها، فضلا عن أن يفكروا في هجوم أو تحد، أو تناول للأسس التي قامت عليها ببحث أو تمحيص. وهذا المنهج مخالف للمنهج العلمي القوي “الهجومي” الذي آثره حجة الاسلام الغزالي في “تهافت الفلاسفة” في نقد الفلسفة اليونانية، وشيخ الاسلام ابن تيمية في “الرد على المنطق” في نقد المنطق اليوناني وفلسفة أرسطو، ثم هجر هذا الأسلوب قروناً طويلة حتى جاء دور نهضة الغرب، وران سحره على العقول والنفوس.

كان من لطف الله بكاتب هذه السطور ومن حكمته، أنه نشأ في بيئة تمردت على الحضارة الغربية وإغراءاتها واستقامت على الفكرة الاسلامية النقية البعيدة عن الافراط والتفريط، وفي عصر بدأ فيه سحر الحضارة الغربية يضعف ويزول -بتأثير حركات تحريرية وثورات سياسية في البلاد- وفي حضانة مرب أخذ من الثقافتين القديمة والحديثة رحيقهما واحتفظ بأفضل ما عندهما، ونبذ القشور والفضول، وكان من كبار الناقدين المنصفين لهذه الحضارة وزعمائها، ثم سعد بالتلمذة على أساتذة كلهم يتصفون بالحرية الفكرية، والشجاعة الأدبية، والنقد الجريء، فكان بحكم هذه البيئة والتربية يعاف الأدب الضعيف الخجول، والكتابات المتراجعة المنسحبة، المعتمدة على وقاية النفس، المفضلة للسلامة على الغنيمة، والنجاة على الغلبة والفتح، فكان إذا قرأ شيئا من هذا الأدب المنهزم شعر بامتعاض، وكان ذوقه لا يسيغه، كان مدفوعا إلى حب الطموح وحب الكرامة، والاعتزاز بالعقيدة والدين، قد امتزجت كراهة الشعوب التي حاربت الاسلام، وساقت الانسانية كلها إلى الشهوات والشبهات وعبادة المادة والقوة، وتولت كبر الدجل والتلبيس، فعاد لا يحتمل تمجيداً لها، أو دفاعاً عنها، أو ركوناً إليها، مهما كان الكاتب عظيماً أو الكتاب جليلا.

وكان أول من وجد في أدبه ما يرضي ضميره ويشحن نفسه بشحنة جديدة من الثقة والاعتزاز وكبر النفس وسمو النظر وقوة العاطفة، فيشعر بدبيب كدبيب النمل، في عروقه وفي أعصابه، وبحركة في شعوره وأفكاره، ويقظة في أمانيه وآماله، هو شعر الدكتور “محمد إقبال” الذي آمن بخلود الرسالة المحمدية، وقيادة صاحبها لكل زمان، وكفر بالحضارة الغربية وتحدى زعماءها.

وظل يطالع كتب المعاصرين وكتاباتهم، فوجد هذا اللون يغلب عليه الطابع العلمي في كتابات مسلم جديد، هو الأستاذ محمد أسد، ومسلم قديم هو الأستاذ أبو الأعلى المودودي، قرأت للأول في الانجليزية كتابه المشهور “الاسلام على مفترق الطرق” وقرأت للثاني مقالاته في مجلة “ترجمان القرآن” في نقد الحضارة الغربية وأسسها، ثم جعت في كتاب سماه “تنقيحات” فرأيتهما يتناولان الحضارة الغربية كقضية علمية تصلح للنقاش والبحث، أو كجثة تعرض للتشريح في كلية الطب والجراحة، ويتكلمان في القضايا العلمية والاجتماعية والحضارية، وفي الدراسات المقارنة بين الحضارات والديانات والنظريات والفلسفات، عن ثقة واعتماد، وبقوة واعتزاز.

وكنت أتلمس هذا العنصر القوي وهذه الروح العالية في كتاب مصر، والأقطار العربية، فلا أجدها في كتابات الكتاب المصريين إلا لمعات أو لمحات في كتابة الأستاذ العقاد والذي يبدو فيها باعثاً حرا وناقداً عميق النظر.

وأشعر بأن مدرسة السيد جمال الدين الأفغاني قد أثرت في أساليب الكتاب العرب ومناهج تفكيرهم، فهم إذا خاضوا في السياسة وانتقدوا الاستعمار كانوا شجعانا مغامرين، ونقاداً مهاجمين، لا يخالفون سجناً ولا تشريداً، ولا عقوبة ولا تهديداً، ولكنهم إذا تناولوا موضوع الحضارة الغربية، والنظم السياسية، والفلسفات الاقتصادية، والعلوم العمرانية، كلت أقلامهم، وتلجلجت ألسنتهم، وضعف أسلوبهم حتى يظهر من خلال كتاباتهم، أن الغرب هو المثل الأعلى في كل شيء، وأن المقياس للنهضة والسعادة، هو الدنو من هذه الغاية، والتشبه بها، وجاء كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” لكاتب العربية الأكبر الأشهر الدكتور طه حسين في قمة هذه الفكرة وذروتها، وكان كل ما أقرأ من شعر وأدب وبحث علمي، أو عرض تاريخي، أجده يغني على وتر واحد.

وكان هذا الكتاب الذي أتحفت به في البلد الأمين مفاجأة لي فيما يختص بالمكتبة العربية الحديثة، وكأنما وجدت ضالتي واكتشفت شيئا مجهولا أو مفقوداً، إن مؤلفه تحرر من هذا الأسلوب الاعتذاري، الذي أصبح شعاراً للكتاب الاسلاميين منذ مدة طويلة، وفضل أسلوب الهجوم، أو مواجهة الفكرة الغربية -بمعناها الواسع- وجها لوجه، وتكلم عن مستوى النقاد الأحرار الذين لا سلطان عليهم لمجتمع أو ثقافة أو سياسة أو مصلحة، الذين يبحثون في العلم للعلم، وفي الحقيقة كحقيقة، والذين عرفوا هذه الحضارة عن كثب لا عنكتب، وعن تحقيق لا عن تقليد، وعن تجربة لا عن سماع، وتوسع في دراسة النصرانية والحضارة اليونانية والرومانية، واستطاع تحليل الحضارة الغربية وتجربتها، وتعمق في دراسة النظم الاقتصادية والاجتماعية.

وأكثر ما أعجبني في هذا الكتاب، هو ثقة المؤلف بصلاحية رسالته التي يؤمن بها، وخلودها وتفوقها، وأنها هي الرسالة الوحيدة التي تسعد بها البشرية، وإن كنت وجدت في هذا الكتاب ما لم أستطع أن أوافق مؤلفه عليه وتمنيت لو خلا هذا الكتاب من هذه المآخذ القليلة، وأكثر المؤلف الفاضل من تمحيص هذه الآراء، وكان أرق وألطف، مع هذه الشخصيات التي أكرمها الله بصحبة رسوله والعصمة لله وحده.

ثم أراد الله أن يكرمني بمعرفة المؤلف الشخصية والجلوس معه ساعات طوالا ومرات عديدة، والحديث إليه في حرية وانطلاق، فلما وصلت إلى القاهرة في مستهل سنة 1951م، كنت مصمما على زيارته وانتهاز أول فرصة للقائه، وأراد الله أن يكون له الفضل في هذه الحسنة كما كان له في كثير من الحسنات، فقد طلب من صديقنا المشترك الحاج علمي المنياوي صاحب المطابع العربية في القاهرة، والرجل المؤمن الصالح الذي عاش غريباً مطارداً في سبيل العقيدة والمبدأ، ومات غريباً رحمه الله، أن يجمعني به في منزله بحلوان، فكان أول لقاء يوم الجمعة 1370/5/17هـ (1951/2/23م)، وكانت جلسة لا تنسى، فقد تفتح قلبه لي، وكان قد قرأ كتابي “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”، وهو كتاب ينسجم مع نفسيته ويتجاوب مع تفسيره وأسلوبه، لأنه حديث عن الاسلام كرسالة عالمية خالدة خلقت لتبقى وتزدهر، وتسود وتقود، ولها وحدها حق التوجيه والقيادة، ولأصحابها وحدهم العزة والغلبة والعلو، أما غيرها من الديانات فقد أفل نجمها ومضى عهدها، وأما ما قام على أساسها من الحضارات، فقد نفد زيتها واحترقت ذبالتها، لذلك كان من الطبيعي أن يأنس كلانا بصاحبه، ويفضي إليه بذات صدره، ولو كان أنس صغير بكبير، ومتطفل بأصيل، وقد تحدث “سيد” في هذا المجلس كثيراً عن حياته وتجاربه ونقط التحول فيها والعوامل التي صاغت حياته الحديثة، وجعلت منه كاتباً إسلامياً من الدرجة الأولى، وداعية مربياً لجيل جديد، ومدرسة من المدارس الفكرية والأدبية زاهية زهرة، تؤتي أكلها حتى بعد موت صاحبها، وكان هذا الحديث ذا قيمة علمية وتاريخية فيما يختص بمعرفة سيد قطب، يستنير به كل كاتب في حياته وآثاره.

وتكررت الزيارات، وجمعتنا مناسبات إسلامية ومحاضرات في جمعية الشباب المسلمين، وفي بيته بحلوان، ودفعتني هذه الثقة والتجاوب إلى أن أطلب منه أن يقدم لكتابي “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين” الذي أعجب به، وكان موضوع استعراض ومناقشة في الندوة العلمية التي كانت تعقد كل جمعة في منزله، ويحضرها عدد كبير من الشباب والمثقفين والفضلاء الجامعيين، وقد حضرت هذه المناقشة وعرفت اهتمام الأستاذ بهذا الكتاب، وكنت أشعر كما كان يشعر كثير من قراء هذا الكتاب، أن مقدمة الدكتور أحمد أمين -رحمه الله- أضعفت من قيمة هذا الكتاب، فلم تكتب عن اندفاع وحماس، إنما كتبت أداء للواجب، أو إجابة للطلب، وكان صاحبها لا يؤمن بفكرة الكتاب الأساسية، أو على الأقل لا يتحمس لها، وقد علق عليها المرحوم الملك عبد الله بن حسين ملك المملكة الأردنية الهاشمية حين قرأ هذا الكتاب بقوله : “إن هذه المقدمة قد أساءت إلى هذا الكتاب”، ولا ذنب على المرحوم الدكتور أحمد أمين، فإن له منهجاً خاصاً في التفكير والكتابة، وليس في استطاعة كل أديب أو باحث أن يتذوق موضوع كتاب يقدم له وأن يتحمس له، وقد ساورتني هذه الفكرة حتى لم أستطع لها قهراً ولا دفعاً، وكان في ذلك خير كثير، فقد جاءت هذه المقدمة بقلم الأستاذ سيد قطب والتي حلى بها جيد الكتاب في الطبعة الثانية ما تليها من طبعات، مقالة مستقلة، في عرض وجهة نظر صاحبها في التاريخ، كما ينبغي أن يكتب من الزاوية الاسلامية وفهمه للنهضة الاسلامية ودعائمها وأسسها، وقد كتبها عن عاطفة وإخلاص للغاية التي يدعو إليها هذا الكتاب، وفي قوة وحماسة هي من أبرز سمات كتابات سيد قطب.

ولم يقتصر الأستاذ سيد قطب على هذا الاكرام والتشريف لمؤلف هذا الكتاب، بل إنه تكرم وقدم لكتاب ألفه المؤلف لأطفال المسلمين في قصص الأنبياء، فقدم للجزء الثالث من هذه السلسلة التي تسمى “قصص النبيين للأطفال” وصدر عنه اعتراف لا يصدر إلا عن نفس كبيرة وصدر واسع وقلب مؤمن، فقال : ((لقد قرأت الكثير من كتب الأطفال -بما في ذلك قصص الأنبياء عليهم الصلوات والسلام- وشاركت في تأليف مجموعة “القصص الديني للأطفال” في مصر مأخوذاً كذلك من القرآن الكريم، ولكني أشهد في غير مجاملة أن عمل السيد أبي الحسن في هذه القصة التي بين يدي، جاء أكمل من هذا كله، وذلك بما احتوى من توجيهات رقيقة وإيضاحات كاشفة لمرامي القصة وحوادثها ومواقفها، ومن تعليقات داخلة في ثنايا القصة، ولكنها توحي بحقائق إيمانية ذات خطر، حين تستقر في قلوب الصغار أو الكبار.

ولم يكن شيء في تلك الفترة يدل على أن الأستاذ سيد قطب يتخطى حدود الكاتب والمؤلف والباحث والمفكر، ويدخل في ميدان الكفاح العلمي، والقيادة للكتيبة المؤمنة المجاهدة، ويشاهد العالم منه تلك البطولة النادرة، والصمود الرائع أمام الوحشية التي تقشعر منها الأبدان، ويشمئز منها الوجدان، بل كان كل شيء يدل على أنه يقضي حياته منحصراً في مجال التأليف والكتابة وعرض الفكرة الاسلامية فحسب، مخلفا تبعتها على المغامرين من المؤمنين في الأجيال القادمة كما فعل كثير من السابقين والمعاصرين، وقد فوجئت في أول لقائي معه بوجود الفجوة الواسعة بين حالته الصحية وجسمه الضعيف، وبين أسلوبه القوي المتحدي المسعور الذي يشعر الانسان بلهيبه ووهجه، وقلمه المتدفق الذي يتطاير منه الشرر كأنه جدوة من نار، وقد سجلت هذا الانطباع وهذا الشعور الذي هزني في “مذكراتي”.

وقد كان هو نفسه لا يعرف هذه القوة الكامنة التي تحركها الحوادث والتحديات وتفاجئ صاحبها كما تفاجئ غيره، ولا يعرف المستقبل الذي كان ما يزال في ضمير الغيب، بل كان يستصغر نفسه ويراها بعيدة عن النهوض بأعباء القيادة للدعوة الاسلامية، فقد جاء في مذكراتي ما يستحق أن يلفت الأنظار ويقرأ من جديد، ويدل على إيمان هذا الكاتب الاسلامي الكبير وتواضعه وشعوره المرهف بضخامة المسؤولية “وقدسية” القيادة، وأنقله هنا حرفيا فقد أصبحت وثيقة تاريخية لها قيمتها وأهميتها :

“ثم جرى الكلام عن الفرد الأول الذي يتعهد هذا العمل، فأشار إليه بعض الحاضرين وأثنوا عليه، وقالوا : إن الكتب العظيمة التي ألفها لا تصدر إلا عن قلب مؤمن وعقيدة متينة، وخلق مستقيم، وهنالك تكلم الأستاذ وشهد على نفسه بكل صراحة وجسارة وقال : “أنا لا أعتقد أني أستحق هذا الثناء والأمل، وليس صدور الكتاب دليلا على أن المؤلف اجتاز المراحل الأولى في التربية الاسلامية وإعداد النفس، وأنا أعرف معركة قائمة بين بيئتي وما أنا فيه من راحة ورخاء وفرص، وبين ما يطلبه الايمان والجهاد من التضحية والايثار، والزهد والقوة الروحية، وأعرف أن المرحلة النهائية لا تزال بعيدة، وأن الميزان ما ذكره القرآن : ((قل إن كان آباءكم وأبناؤكم وإخوانكم..<(التوبة : 24) فما لم أر هذا المنزل الذي أسكنه والخص، والوظيفة والعطلة، وأسباب الغنى والفقر سواء، فإني لا أزال بعيداً عن حقيقة الايمان والتربية الاسلامية، فلا أريد أن أخدع نفسي ولا غيري”.

ولكن الذي ظهر من استقامته وشجاعته من حيث اعتقل وسجن، وحوكم وعذب إلى أن كرمه الله بالشهادة عام 1389هـ (1966م) فقد بهر الجميع، وأثبت أنه آمن بفكرته قبل أن يؤمن بها غيره، ودفع ثمنها من دمه وحشاشة نفسه وروحه الزكية، وأنه قد باع نفسه وتمت الصفقة بينه وبين الله، وكتب الصك وشهد الشهود قبل أن يطلع عليه آلاف المعجبين به وبأدبه، والذين يعيشون في فكرته وكتاباته، وأنه قد انتهت هذه المعركة التي كان يتهيبها ويستعظمها -كما مر انفا- في قرارة نفسه، وقد انتصر فيه اليقين على الشك. والسكينة على التردد، والعزم على ضعف الارادة، فما كان الاعتقال والتنكيل والشهادة، إلا نتيجة حتمية وصورة صادقة لهذه المعركة التي خاضها في أعماق نفسه وقرارة بيته، قبل أن يخوضها في الزنزانة وعلى المشانق.

وسيزداد اعتناء الناس بآثاره، وشغفهم بكتبه ومؤلفاته، وحرصهم على إحياء تراثه الفكري والعلمي، وتخليد اسمه ومآثره، ويبدو لي أن هذا كله من مقتضيات معاني الحياة التي يكرم بها الشهيد، وأن كلمة “أحياء” في قوله تعالى : ((بل أحياء عند ربهم< أوسع مما فهمها الناس وفسرها المفسرون، فتشمل بقاء الآثار وانتشارها، ولهج الناس باسم الشهيد وأخباره، وغرامهم بحديثه وذكره، واعتراف وإعجاب في المعاصرين ولسان صدق في الآخرين، يأبون إلا الموت فيأبى الله إلا الحياة، ويريد الأعداء طمس الآثار فيأبى الله لها إلا الانتشار والازدهار.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>