مع كتاب الله تعالى : تفسير سورة التحريم 27 ((ياأيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ماأمرهم ويفعلون مايومرون))


-1 عود على بدء :

لازلت أتحدث عن وسائل التربية الصالحة، التربية الإسلامية، وهي الوسائل التي لابد أن نكون على وعي بها حينما نريد أن نمتثل ونلتزم قول الله تعالى : ((يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً)) والآية -كما بيّنت- آية داعية إلى تربية النّشْءِ وإلى ملاحظة تكوين النشء ولاشك أن كل مسلم يريد أن يستجيب لهذه الآية، ويريد أن يقوم بواجبه في هذا المجال، يسأل كيف يجب أن نربّي أولادنا؟ ما هي الوسائل؟ ماهي السُّبُل لنصل إلى الغايات؟ لأن التربية ككل الأشياء، ككل الفنون، هي علم له أصوله وله قواعده، والتربية التي بها نستجيب لأمر الله هي التربية التي تأخذ وسائلها من كتاب الله لتصل إلى الغايات التي حددها كتاب الله عز وجل، وقد سبق أن بيّنْتُ ما تعلَّق بالقدوة وبالموعظة الحسنة وبالمثوبة والعقوبة، وتحدّثت عن وسائل أخرى، وتحدثت عن وسيلة ملْءُ الفراغ، ملء هذا الشغور الذي يوجد. وبيّنتُ أن الإسلام من سُنته أنه إذا رفض سلوكاً ما، أو عملاً ما، وكانت النفوس متعلقة به، فإنه يُلغيه وفي المقابل يعطي ما يُعوِّضهُ، لتستريح فيه النفس على نحو ما كانت تستريح بالعلم الأول بمعنى أنّ من العبث أن تنهى إنساناً عن شيء وتتركه للفراغ، إن ترك الإنسان للفراغ هو في حدِّ ذاته إفساد لذلك الإنسان، نحن نريد أن ننزع الناس عن مقاعدهم التي يجلسون عليها في المقاهي، لنوفّر لهم مجالس الخير التي تعوِّضهم عما فقدوه من ذلك الأنس الذي يجدونه في المقاهي، لابد أن نوجد لهم مجالس أفضل من تلك وأشرف وأكْمل منها، لابد أن تكون المساجد ومجالس العلم والذكر والدرس عوضا وبديلا عن المقاهي، ولكن إذا كانت المساجد فارغة، عاطلة، لا تؤدي فيها إلا الصلوات ثم تُغلق، فإن من طبيعة الناس أن يعودوا إلى المقاهي مادام البَدَلُ غيرَ متوفِّرٍ، إذاً فلابد أن نهتم لهذا الأمر الذي هو مَلْءُ الفراغ، وعدم تعريض الناس للفراغ.

قلت : إن الشريعة الإسلامية لا تترك الإنسان في فراغ، بَلْ تزيل وتقيم مكان المُزال شيئا يعوّضه، حينما نهى الله تعالى المسلمين عن الربا وضع مكانه القرض الحسن، وعندما نهاهم عن ولاية الكافر ولو كان هؤلاء الكفار  إخوانهم وأقرباءهم وأحبابهم وأزواجهم إن هم استحبوا الكفر على الإيمان، ألغى الإسلام الولاء للكافر ولو كان أخاً، ولو كان أباً، ولو كان ابناً.. وضع مكانه الولاء لله ولرسوله وللمومنين، قال تعالى : ((لاَ تَجِدُو قَوْماً يُومِنُونَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ))(سورة المجادلة)، فحينما أزال هذا الأمر، عوَّضَ المسلم بدل هذا الأخوة الإسلامية فقال تعالى : ((إنما المومنون إخوة))(سورة الحجرات)، وقال تعالى : ((إنّما وليّكم الله ورسولهُ والذين آمنوا))(سورة المائدة) فإن فقد المؤمن إخوة كانوا يتصلون به في اللحم والدم، فقد عوّضه الله تعالى خيراً منهم أخوة في الدين، وهذا الأمر هو الذي مضى عليه التشريع الإسلامي، وهو الذي يجب أن يُراعى في عملية التربية، فلا يُترك الشُّغور، ولا يترك الخواء، ولا يترك الفراغ، خصوصا في السنوات الأولى للتربية.

الفراغ والتوقف عن كل الأفعال يُعرّض الإنسان إلى كل المخاطر سواء كان فراغاً في القلب أو فراغا في الأشغال، فإن الإنسان يكون حينئذ مهيّأ لكل شيء يمكن أن يَرِدَ عَلَيْهِ، ألم تسمع الشاعر يقول :

أتاني هواها من قبلِ أن أعرف الهوى

فصادف القلبَ خالياً فتَمَكّنَا

لو كان قلبه معموراً بحبّ الله لما تمكن الهوى من قلبه، إن ممّا يجب أن نتفطّن إليه هو حالة الشغور المهلك.

-2 الفراغ هو الذي مكن للكفر في القلوب :

حينما أفرغت قلوب شبابنا من التديّن بفعل الدعايات الكاذبة أصبح الشباب مستعداً ليجد نفسه في حالة فراغ،  زُجّت به في منظومة يسارية، منظومة مادية، وصار هذا الشباب متدينا دينا جديداً، له كتاب، وله نبي، وله كل مقومات الدين، صا للماركسية صنمها المعبود وهو ماركس، وصار لها أنبياء مبشرون بها وهم لينين وتروتسكي وصار لها أتباع، وصار لها كتبٌ، وصارت لها نفس الأمور التي هي للدين، وحينئذ تمسّك بها الناس، ودافعوا عنها، واستماتوا من أجلها كما يستميت المؤمنون من أجل الدين، الشيوعيون في زمنهم الأول قبل أن يتفطنوا للخدعة والأكذوبة هكذا كانوا، كأنما هم متدينون بدين هو بديل وعوض عن التدين الحقيقي.

أما في الصين فالأمر أخطر، الشيوعية هناك لم تكن مذهبا أو فكرة فقط، ولم تعد رأيا، بل صارت دينا بكل معنى كلمة الدين، وصار (ماوتسي تونك) مقدسا وأًصبحت مضاجعته للصينيات فيه معنى المباركة لهذه المرأة الصينية التي يضاجعها الرئيس لأنه ينجب منها نسلا مباركا طيبا يتولّد من هذا الرحم، وبذلك كان الزعيم (ماوتسي تونك) من أفجر الفجار ومن أفسق الفسّاق على وجه الأرض.

لقد أصبحت هذه المذاهب المادية ديانات، وما كان لها أن تنشأ إلا بعد سقوطنا في هاوية التفريغ، أي : إخلاء حياة المسلمين من الدين، فحينما أُفْرغت حياة المسلمين من الدِّين أصبحت متسعة لأن تُملأ بأي شيء، وفعلا فقد حُشيت بالماديات التاريخية، حُشيت بالأفكار التي لا يقبلها عقل، لأن المادية التاريخية تقوم على مبادئ وأفكار ليست علمية أبداً، الاشتراكية العلمية غير علمية لأنها تتحدث عمّا قبل التاريخ، والذي يتحدث عما قبل التاريخ لا يمكن أن يكون مؤرخا، نتحدث عن كيف نشأت البشرية، كيف عرفت الناس المشاعات الملكية، كيف انتقل الناس من المشاعات الملكية الى الإقطاع إلى البورجوازية، ثم إلى الرأسمالية إلى آخر الزبور الشيوعي والمنظومة المادية..،  وهذا الأمر لم يذكره التاريخ ولم يسجّله، وقد سماه المؤرخون ما قبل التاريخ، وحسب هذا الزعم فقد صار تاريخا ولا داعي إلى أن تُقَسَّمُ حياة البشرية إلى ما قبل التاريخ وما بعد التاريخ.. ليس هذا إلا هراء ووعوداً معسولة كانت تقدم للإنسان، كانوا يُمَنُّونَهُم بأن الناس سيُلغون فيهم حُبَّ الملكية، وستزول الدولة، وستزول السلطة، ويزول الجيش، لأن الأشياء ستصير ملكا للجميع، فلا داعي إلى التخاصم والتنازع، هذه أفكار كانت هابطة ساقطة ومع الأسف مات من أجلها كثير من الناس، وضاع من أجلها كثير من الجهد، وضاع الكثير من الزمن في تثبيت دعائم الشيوعية على حساب الإسلام، فما جنيْنا من ذلك شيئا، والسبب الفراغ.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>