مع الصادقات : قصة المجاهدة زينب الغزالي


ولدت سنة 1917 ونشأت في بيئة إسلامية، والدها كان عالما أزهريا، فقام بتربيتها أحسن قيام. تزوجت -بشروط- من رجلين ولم يقدر لها الله سبحانه أن تنجب أولاداً، عاصرت بداية العمل الإسلامي المنظم، وهي من الرعيل الأول المؤسس له، تخرج على يدها العديد من رجال الدعوة، ولحقها من القمع والاضطهاد ما تعجز الأقلام عن وصفه، ومرت بأحلك فترات العمل الاسلامي، ولم تزدها محنة السجون والعذاب إلا قوة وصلابة فما لانت لها عزيمة ولم تركن إلى الذين ظلموا.

قضت في السجن ست سنوات تعرضت خلالها لشتى أنواع التعذيب على يد ضباط السجن الحربي أيام حكم عبد الناصر. وتحدثت عن هذه الفترة من حياتها في كتاب ألفته بعد خروجها من السجن مباشرة بعنوان : “أيام من حياتي” ولأن الكتاب كتبته بمداد جراحات المحنة فلنتركها تقصص علينا من تلك الأيام. ولنا أننتصور عظم هذه المرأة وصبرها في سبيل دعوتها، ونأخذ العبرة أولا من كونها امرأة!!

وسيرى القارئ الكريم ذكر بعض الجزئيات وقد يستغنى عنها ولكن في كل شيء عبرة.

بداية الدعوة

في أوائل 1958 فتحت بيتي للعمل الدعوي وكنت أبحث مع الرجال في أمور المسلمين وعن سبل المخرج، مبتدئين بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح، جاعلين منهجنا مستمدا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وكانت خطة العمل : تجميع كل من يريد العمل للاسلام، ولم يكن في البرنامج إلا تربية الفرد المسلم الذي يعرف واجبه تجاه ربه، وتكوين المجتمع المسلم الذي سيجد نفسه مفاصلا للمجتمع الجاهلي.

وقفة مع زوجي

لم يكن عملي في هذا النشاط يجعلني أقصر في واجبي الأسري، غير أن زوجي الفاضل لاحظ تردد بعض اللبنات الطاهرة الزكية من الشباب المسلم على منزلنا، ولما أخذ يبحث الأمر معي ذكرته بالشروط التي اشترطتها أثناء الزواج وهي ألا يمنعني من جهادي في سبيل الله، ويوم تضعني المسؤولية في صفوف المجاهدين ألا يسألني ماذا أفعل، ثم توقفت عن الكلام برهة ونظرت إليه قائلة : أنا أعلم أن من حقك أن تأمرني ومن واجبي أن أطيعك ولكن الله أكبر في نفوسنا من أنفسنا، ودعوته أغلى علينا من ذواتنا فقال: سامحيني، اعملي على بركة الله.

وكثر العمل والنشاط، وتدفق الشباب على بيتي ليلا ونهارا، وكان الزوج المومن رحمه الله يسمع طرقات الباب في جوف الليل فيقوم من نومه ويفتح الباب… ويدخلهم إلى الحجرة ويذهب يوقظ السيدة التي تدير أعمال البيت فيطلب منها أن تعد لهم بعض الطعام والشاي.. ثم يأتي إلي فيوقظني في إشفاق قائلا :

بعض أولادك في البيت وعليهم علامات جهد وسفر.

وأرتدي ملابسي وأذهب إليهم ويأخذ زوجي طريقه إلى مكان نومه وهو يقول إلي : إذا صليتم الفجر فأيقظيني أصلي معكم إن كان ذلك لا يضر.. وكان نعم الزوج!!.

المؤامرة

وعشنا متوكلين على الله نعمل، وخلف ظهورنا ما يدبر الفجار، وقد تأكدت لدينا الأخبار بأن المخابرات الأمريكية والروسية ووليتهم الصهيونية العالمية قدموا تقارير وتعليمات لعبد الناصر ليأخذ الأمر بمنتهى الجد للقضاء على هذه النبتة.

وفي أوائل 1965 اعتقل سيد قطب وشقيقه.. وأخذت الأخبار تتوالى بالقبض على العشرات، والمئات وارتفع الرقم إلى الآلاف.

وجاء دوري

وفي نفس السنة اقتحم رجال الطاغوت منزلي… وأتلفوا ما فيه وصادروا كل ما أرادوا واستولوا على خزانتي.. وقبضوا علي وأدخلوني في عربة.. وأخذت تنهب بنا الطريق حتى وصلت إلى السجن الحربي، أنزلت منها واتجهوا بي إلى حجرة مظلمة ووقفت أمام رجل مظلم الوجه قبيح اللفظ.

قلت اعتقلت أنا وكتبي وخزانتي، ولما طلبت منهم تسجيلها كي تعاد لي.. أجابني المتغطرس شمس بدران وكان يومها رئيس النيابة : “لا يابنت أل.. نحن سنقتلك بعد ساعة؟ .. نحن سندفنك كما دفنا عشرات منكم يا كلاب هنا في السجن الحربي.. ولم أستطع الاجابة لأن الكلمات كانت بذيئة منحطة.

وقال المتغطرس للذي يمسك بذراعي خذها إلى الحجرة رقم …24 ثم تضرعت إلى الله قائلة : “اللهم أنزل علي سكينتك وثبت قدمي في دوائر أهل الحق واربط على قلبي بذكرك وارزقني الرضا بما يرضيك”. وفي الطريق إلى الحجرة ساروا بي الشياطين في أنحاء عديدة من السجن الحربي ورأيت.. رأيت الاخوان معلقين على الاعواد والسياط تلهب أجسادهم العارية.. كنت أعرف عددا منهم، من هؤلاء الشباب المومنين الأتقياء الأنقياء أبنائي وأحبائي في الله أصحاب مجالس التفسير والحديث. ورأيت منهم العجب.. رأيت شابا مصلوبا على خشبة فصرخ : أماه! ثبتك الله. قلت أبنائي : إنها بيعة، صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة، وهوت يد الفاجر علي كأنها ماسا كهربائي فقلت : “الله أكبر ولله الحمد اللهم صبرا ورضا”، وأدخلت حجرة مظلمة ثم قلت : ((السلام عليكم، وأغلق الباب.. الحجرة مليئة بالكلاب! لا أدري كم!! أغمضت عيني ووضعت يدي على صدري من شدة الفزع، وسمعت باب الحجرة يغلق بالسلاسل، وتعلقت الكلاب بكل جسمي أحسست أن أنيابها تغوص فيه. وأخذت أتلو أسماء الله الحسنى، ثم ناديت ربي هاتفة : اللهم اشغلني بك عمن سواك..” تركت مع الكلاب أكثر من ثلاث ساعات ولما فتح الباب ظننت أن ثيابي البيضاء مغموسة في الدماء.. لكن يا لدهشتي كأن نابا واحدا لم ينشب في جسدي. سبحانك يارب.. إنه معي، يا الله هل أستحق فضلك وكرمك لك الحمد ياالله، أقول هذا سرا لأن الشيطان ممسكا بذراعي يسألني : كيف لم تمزقني الكلاب؟ والسوط في يده.

ثم اتجه بي إلى الزنزانة رقم 3 فيها منعت من الأكل والشرب ودورة المياه.

ولم يمهلني الطغاة في الزنزانة، جاءوا بصليب من الخشب على ارتفاع النافذة ثم جاءوا بشباب من المومنين يصلبونهم الواحد تلو الآخر ويأخذون في جلد المصلوب بالسياط والشاب يذكر الله ويقولون له : يا بن الكلب متى ذهبت إلى منزل زينب أول مرة؟ فإن لم يذكر عادوا إلى الجلد وطلبوا منه أن يسبها بأبشع ما يتصور الانسان من الفاحشة.. وهكذا شاب يعقب أخاه وقلبي يتمزق ثم أخذت أناجي الله وأتضرع إليه كثيرا. ولا أدري كيف أخذني النوم وأنا أذكر الله، وكان في هذا اليوم فضل، كان فيه رؤيا مباركة هي إحدى رؤياي الأربع التي رأيت فيها النبي صلى الله عليه وسلم في محنتي.

رأيته بحمد الله يقول لي : “أنت يا زينب على قدم محمد عبد الله ورسوله”. وقمت من النوم وكأني ملكت الدنيا بهذه الرؤيا.. أمضيت على هذه الحال ستة أيام على التوالي لا يفتح باب الزنزانة لا أكل ولا شرب ولا دورة مياه. ولك أن تتصور أيها القارئ الكريم كيف تستطيع أن تعيش هكذا.. نعم لقد عشتها بأمرين :

-1 هو فضل الله علينا بالايمان به الذي يعطي قوة وطاقة احتمال هائلة تفوق قوة الطواغيت.

-2 هو تلك الرؤيا المباركة التي كانت بمثابة زاد جعلتني أحتمل في رضا جحيم هؤلاء الطواغيت.

وصور العذاب التي ذكرت نموذج من بين عشرات النماذج التي يعجز القلم عن وصفها.

محكمة!!

وفي يوم66/5/17 أخذونا إلى المحكمة وكنا ثلاثة وأربعين اثنان من النساء : أنا وحميدة قطب، والباقي رجال يتقدمهم سيد، ونفذ الطاغوت أحكامه بالاعدام لسيد وعبد الفتاح اسماعيل ويوسف هواش. ووقع علينا إعدام سيد وأخويه موقع الصاعقة وبعد أيام حكموا علينا بحكم انفرادي أنا وحميدة :

زينب الغزالي 25 سنة مؤبدة والأشغال الشاقة.

وحميدة قطب 10 سنوات مؤبدة والأشغال الشاقة.

وبعد المحاكمة اعتقدت أنه انتهت المتاعب بالنسبة لي ولكني فوجئت بأنهم يستدعونني للتحقيق مرة أخرى وبدأوا معي التعذيب من جديد. من زنزانة إلى زنزانة ومن سجن إلى سجن حتى أفرج عني سنة .1971

((والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)).

إعداد : عمر داود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>