الشيخ بديع الزمان
سعيد النورسي
ترجمة: ذ. إحسان قاسم
هذه اثنتا عشرة صورة تؤكد أن هناك محكمة كبرى حقا، ودارا للثواب والإحسان، وأخرى للعقاب والسجن.
ترجمة: ذ. إحسان قاسم
الصورة الأولى
أمن الممكن لسلطنة -ولا سيما كهذه السلطنة العظمى- أن لا يكون فيها ثوابٌ للمطيعين ولا عقاب للعاصين؟.. ولما كان العقاب والثواب في حكم المعدوم في هذه الدار..
فلابد إذن من محكمة كبرى في دارٍ أخرى.
الصورة الثانية :
تأمل سير الأحداث والاجراءات في هذه المملكة، كيف يوزّع الرزق رغداً حتى على أضعف كائن فيها وأفقره، وكيف أن الرعاية تامة والمواساة دائمة لجميع المرضى الذين لا معيل لهم. وانظر إلى الأطعمة الفاخرة والأواني الجميلة والأوسمة المرصعة والملابس المزركشة.. فالموائد العامرة مبثوثة في كل مكان.. وانظر! الجميع يتقنون واجباتهم ووظائفهم إلا أنت وأمثالك من البلهاء، فلا يتجاوز أحد حدّه قيد أنملة، فأعظم شخص يؤدي ما أنيط به من واجب بكل تواضع، وفي غاية الطاعاة، تحت ظل جلال الهيبة والرهبة. إذن فمالِكُ هذه السلطنة ومليكه ذو كرم عظيم، وذو رحمة واسعة، وذو عزة شامخة، وذو غيرة جليلة ظاهرة، وذو شرف سامٍ. ومن المعلوم أن الكرم يستوجب انعاماً، والرحمة لا تحصل دون احسان، والعزة تقتضي الغيرة، والشرف السامي يستدعي تأديب المستخفين، بينما لا يتحقق في هذه المملكة جزء واحد من ألفٍ مما يليق بتلك الرحمة ولا بذلك الشرف. فيرحل الظالم في عزته وجبروته ويرحل المظلوم في ذله وخنوعه.
فالقضية إذن مؤجلة إلى محكمة كبرى.
الصورة الثالثة :
انظر، كيف تُنجز الأعمال هنا بحكمة فائقة وبانتظام بديع، وتأمل كيف يُنظر إلى المعاملات بمنظار عدالةٍ حقة وميزانٍ صائب. ومن المعلوم أن حكمة الحكومة وفطنتها هي اللطف بالذين يحتمون بحماها وتكريمهم. والعدالة المحضة تتطلب رعاية حقوق الرعية، لتصان هيبة الحكومة وعظمة الدولة.. غير أنه لا يبدو هنا إلا جزءٌ ضئيلٌ من تنفيذ ما يليق بتلك الحكمة، وبتلك العدالة. فأمثالك من الغافلين سيغادرون هذه المملكة دون أن يرى أغلبهم عقاباً.
فالقضية إذن مؤجلة بلا ريب إلى محكمة كبرى.
الصورة الرابعة :
انظر إلى ما لا يعد ولا يحصى من الجواهر النادرة المعروضة في هذه المعارض، والأطعمة الفريدة اللذيذة المزيّنة بها الموائد، مما يُبرز لنا أن لسلطان هذه المملكة سخاءٌ غير محدود، وخزائن ملأى لا تنضب.. ولكن مثل هذا السخاء الدائم، ومثل هذه الخزائن التي لا تنفد، يتطلبان حتماً دار ضيافة خالدة أبدية، فيها ما تشتهيه الأنفس. ويقتضيان كذلك خلود المتنعمين المتلذذين فيها، من غير أن يذوقوا ألم الفراق والزوال؛ إذ كما أن زوال الألم لذة فزوال اللذة ألم كذلك.. وانظر إلى هذه المعارض، ودقق النظر في تلك الاعلانات، واصغ جيداً إلى هؤلاء المنادين الدعاة الذين يصفون عجائب مصنوعات السلطان -ذي المعجزات- ويعلنون عنها، ويظهرون كماله، ويفصحون عن جماله المعنوي الذي لا نظير له، ويذكرون لطائف حسنه المستتر.
فلهذا السلطان إذن كمال باهر، وجمال معنوي زاهر، يبعثان على الاعجاب. ولا شك أن الكمال المستتر الذي لا نقص فيه يقتضي اعلانه على رؤوس الاشهاد من المعجبين المستحسنين، ويتطلب اعلانه أمام أنظار المقدّرين لقيمته. أما الجمال الخفي الذي لا نظير له، فيستلزم الرؤية والاظهار، أي رؤية جماله بوجهين.
أحدهما : رؤيته بذاته جمالَـه في كل ما يعكس هذا الجمال من المرايا المختلفة.
ثانيهما : رؤيته بنظر المشاهدين المشتاقين والمعجبين المستحسنين له. وهذا يعني أن الجمال الخالد يستدعي رؤية وظهوراً، مع مشاهدة دائمةٍ، وشهودٍ أبدي.. وهذا يتطلب حتماً خلود المشاهدين المشتاقين المقدّرين لذلك الجمال، لأن الجمال الخالد لا يرضى بالمشتاق الزائل. ولأن المشاهد المحكوم عليه بالزوال يبدل تصور الزوال محبته عداء، واعجابه استخفافاً، وتوقيره اهانةً، إذ الانسان عدو لما يجهل ولما يقصر عنه.. ولما كان الجميع يغادرون دورالضيافة هذه بسرعة ويغيبون عنها بلا ارتواء من نور ذلك الجمال والكمال، بل قد لا يرون إلا ظلالاً خافتة منه عبر لمحات سريعة..
فالرحلة إذن منطلقة إلى مشهد دائم خالد.