أثر الإخلاص في بناء قاعدة الأخوة في الله


في ضرورة الإخاء

في زمن التمزق

تحتاج الأخوة في الله إلى مجموعة من الوسائل والمقدمات لكي تترسخ في حياة الأمة الاسلامية بالشكل المطلوب الذي تجعل منها قاعدة صلبة تمكن من بناء أمة الجسد الواحد، خاصة إذا نظرنا إلى واقع هذه الأخوة في الوقت الحاضر الذي تحكمه شبكة من العلاقات والقيم الاجتماعية والعادات الثقافية المعقدة، في ظل إبعاد الاسلام، عقيدة وشريعة، عن حياة الأمة لمدة زمنية كانت كافية لتمزيقها وتشتيت أواصر العلاقات وتشويه القيم الاسلامية وتحريف الافهام وايقاع نوع من الخلل في تدين غالبية الأمة. وقد أدى هذا الواقع إلى ترسيخ كل أسباب التفرقة والتشتت والصراع سواء بين العاملين في حقل الدعوة إلى الله عز وجل، أو بين المسلمين أنفسهم، وذلك لغياب الفهم الصحيح للدين من جهة ولنوع العلاقات بين المسلمين، أفرادا وجماعات وعاملين، من جهة أخرى؛ الأمر الذي يقتضي العمل على تجديد القول في مسألة الأخوة البانية انطلاقا من قوله جل جلاله :  ((إنما المؤمنون إخوة))(الحجرات : 10)، خاصة إذا علمنا من خلال السيرة النبوية، أن الأخوة البانية أساس وحدة الأمة، وأحد مقدمات انتصارها على كل عوامل الانهيار والغثائية والوهن، التي تصاب بها الأمة كلما ابتعدت عن المنهاج الرباني القويم وتخلت عن الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله لها أول مرة ((وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون))(الانعام : 154).

الأخوة الصادقة من ثمرات الاستقامة الصحيحة

إن ما نحتاجه في دعوتنا إلى تصحيح مفهومنا للاخوة هو منهاج الاستقامة المؤسس على فقه الاخلاص ومراقبة الله في السر والعلانية، حيث الضرورة تقتضي في هذا المجال استقامة القلب، لأنه مركز الاخلاص : اخلاص النية واخلاص العمل على حد سواء، الأمر الذي يدفعنا إلى التأكيد على قاعدة أساسية نحتاجها في منهجنا التربوي، ونحن ندعو إلى أمة الجسم الواحد، وهي تخليص القلب من كل ما من شأنه إفساد العلاقة الأخوية وتحطيمها وفتح الأبواب على مصراعيها للسلوكات الهدامة كالغيبة والنميمة والتكفير والتشهير وتلفيق التهم والحسد..، إلى غير ذلك مما يبين بوضوح أن أساس الأخوة لم يكتمل بعْدُ بالشكل المطلوب، وأن القلوب لم تصل بعد الى مرحلة الصفاء والنقاء المؤدي بدوره إلى المحبة الخالصة لوجه الله، وأن المسلمين لم يفهموا بعد، أو لم يفقهوا بعد قوله تعالى على لسان الداعين من المؤمنين ((ولا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربّنا إنك رؤوف رحيم)) (الحشر : 10).

لقد نُخر المجتمع الاسلامي من الداخل بشكل قَوَّضَ قوته وهيبته بل ونموذجه الحضاري، وقد لعبت عوامل الشقاق دورها في تدعيم هذا التقويض الخطير، تخلت خلالها أجيال وأجيال عن الامساك بالهدي الالهي والاسترشاد بالهدي النبوي، مع العلم أن الله عز وجل ينبهنا على الدوام من مغبة السقوط في فخ الابتعاد عن منهجه، والتخلي عن الشرعة التي ارتضاها لنا أول مرة، فقال على سبيل المثال : ((إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم))(الاسراء : 9). لكن للأسف الشديد غلبتنا نفوسنا وأهواؤنا ومحبة النفس والرياء والبحث عن الشهرة وتحقيق الذات مما زاد من تعميق آفة الابتعاد عن منهج الله عز وجل، فتلوثت القلوب، وهي بذلك ابتعدت عن المعرفة الحقة بالله وخشيته، ولذلك نقول على أن من أبرز أمراضنا النفسية التي تؤثر بشكل أو بآخر على علاقاتنا، مرض القلوب، وهو مرض لا يصيب إلا القلوب الضعيفة، الخاوية من محبة الله تعالى، والمفتقدة لوسائل المناعة المطلوبة التي تجنب المسلم الانهيار التدريجي في بوثقة التدين المصاب بالخلل، أو تلك التي سيطرت عليها النفس الأمارة بالسوء بدل النفس الأمارة بالمعروف (النفس اللوامة).

لقد نظرت إلى نفسي، وإلى حال من هم حولي من الناس، خاصة أولئك المنتمين إلى حقل الدعوة إلى الله، فوجدت أن هناك خللا في الرؤية واعوجاجاً في الفهم، الشيء الذي أثر سلبا على نوعية العلاقة بين الإخوة العاملين الذين من المفروض أن يكونوا على درجة عالية من الثقافة الأخوية الإيمانية. لكن الواقع يكشف عن الخلل في الفهم للكتاب والسنة التي حثت على أنه ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (رواه البخاري).

في الحاجة إلى استقامة القلب وخشوع الإيمان

إن الخلل ناتج، بالأساس، عن قصور الفهم وأمراض القلوب التي في الصدور كذلك، ولذلك يقتضي الأمر تربية جيل الدعوة أولا، والناس أجمعين ثانيا، على فقه الاستقامة المؤسس على قوله صلى الله عليه وسلم : ((قل آمنت بالله ثم استقم))(رواه مسلم) بحيث تلعب الاستقامة دورها في تخليص القلب من كل ما من شأنهالدفع بالمسلم الى حافة الزيغ عن الطريق المستقيم، ذلك أن القلب هو مركز اخلاص النية والأعمال، ومتى استقام قلب المسلم على معرفة الله جل جلاله، وحصلت له الخشية الكافية التي تجعله في عداد من قال الله تعالى في حقهم ((إنما يخشى الله من عباده العلماء))(فاطر : 28)، وأولئك الذين قال فيهم ((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، وعلى ربهم يتوكلون))(الأنفال : 2)، أقول، متى استقام قلب المسلم على تلك المعرفة الربانية، استقامت الجوارح كلها على طاعة الله جل جلاله، وأصبح المسلم من المتقين الذين أسسوا حياتهم على المفهوم الصحيح للاحسان ومراقبة الله مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم : ((أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))(رواه البخاري).

وإذا كان الإخلاص هو الوسيلة التي بها تقبل الأعمال كافة، فإنه وسيلة كذلك لتقوية عنصر الأخوة في الله، وبنائها على القواعد الصلبة التي تحفظ استمراريتها وشيوعها، لأن محبة الناس، وخاصة الاخوة منهم، ابتغاء مرضاة الله هي المطلوبة شرعاً وواقعا. فبها تتحقق الألفة والوئام وتترسخ آصرة البنيان المرصوص، أما المحبة المؤسسة على الطمع فيما عند الغير، أو على المداهنة أو الخوف منه…، فإنها مذمومة شرعاً وواقعا كذلك. ولذلك نقول في ختام هذه السطور : إنه لتحقيق الاخوة في الله، تلك التي تؤدي حتما إلى بناء الجسم الحقيقي لأمة الشهادة على الناس والخيرية، عدة شروط، هي بمثابة القواعد الصلبة، التي بانتفائها تنتفي الأخوة، وعلى رأسها الاخلاص في الإخاء ومحبة الاخوة، خاصة أولئك العاملون منهم في سبيل اعلاء كلمة الله.

ذ. عبد العزيز انميرات

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>