قصة الشهيد -حبيب النجار- قصة جديرة بالتأمل والاعتبار. ككل القَصَصِ القرآني المليء بالأنوار والحِكم والعظات التي يحتاج إليها المسلمون والدعاة في كل عصر ليَمضُوا على بصيرة من أمرهم إلى المُقام الأمين في دار السلام المعدة للمومنين المتقين.
المدخل :
نريد -قبل الدخول إلى قصة الشهيد- أن نشير إلى بعض النقط الضرورية لفهم القصة في سياقها القرآني الحكيم.
وهذه النقط يمكن إجمالها فيما يلي:
-1 مناسبة سورة ((يس)) لما قبلها : ورد في ختام سورة ((فاطر)) الإشارة الواضحة للنفسية الشِّركية المتأزّمة من عبادة الأصنام في محيط من حَوْلِها -في يثرب أو اليمن- يتديّن بدين سماوي هو اليهودية أو النصرانية، فكان المشركون يشعرون بالاحباط والنقص والدونية عندما يدعوهم دُعاة النصارى إلى دين النصرانية، أو عندما يُعَيِّرُهم اليهود بأنهمعلى ضلال كبير في تديُّنهم الذي لا سَنَدَ له لا مِن الشّرع ولا من العَقْل، ولا نسَبَ له بالرسالات السماوية المعروفة، فكان المشركون -العاجزون طبعاً عن التأصيل لشركهم، ومن تَمّ الدفاع عنه بقوة الحجة والدليل- يعتذرون بأن رسول اليهودية ورسول النصرانية لم يُبْعَثَا إلى العَرب. وإنما إلى أقوامهم خاصة، ولهذا فهُمْ ينتظرون أن يُبعَث فيهم رسول، فإذا بعث الله تعالى إليهم رسولا فسيكونون أهدَى منهم، أي من اليهود والنصارى. وهذه شهادة ضمنية تدل على أن العرب لم يكونوا ينظرون إلى اليهود والنصارى نظرة كمالية في اتباع الهدي النبوي الحق الذي جاء به رسلهم، فلم يدخلوا في دينهم وإنما انتظروا نبيّاً يحققون معه الهِداية في أكْمَل صورها وأسمى معانيها قال تعالى : ((وَأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أهْدَى مِن إحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إلاَّ نُفُوراً واسْتِكْبَاراً في الأَرْضِ ومَكْرَ السَّيِّئِ ولا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً))(فاطر : -42 43).
الدّلالة الظاهرة من النص القرآني الكريم أن العرب كان لهم علم بالنبوات والرسالات، لا يقِلُّ عِلمُهم بها عن علم أهل الكتاب، إلا أن علمهم لم يكن موثقا في كتاب، ولكنه علم متوارث عن طريق ما كان يطلق عليهم اسم الكَهنة أو العرافين أو الحنفاء سواء كانوا خطباء أو شعراء أو صلحاء، ولا يبعُد أن يكون مصدر هذا العلم هو الرسالات السابقة سواء كانت يهودية أو نصرانية عن طريق الاحتكاك بالأحبار والرهبان.
والدلالة الثانية الظاهرة هو أن العرب كانوا يتشوقون إلى بعثة رسول منهم ليرُدَّ إليهم الاعتبار الذي فقدوه منذ تضييع الأصول الحقيقية لملة ابراهيم عليه السلام، وليرفعهم إلى مستوى الأمم ذات الكتب المنزلة التي منها يستقون تدينهم وإن كان أصابها التحريف.
وإذا كان النص القرآني هنا أبْهَم الأُمَمَ ترفُّعاً عَمَّا لا فائدة في تعْيينه، فلربما تكون الآية 108 من سورة الأنعام موضحة للأمم المُبْهمة هنا، قال تعالى : ((وهَذَا كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ واتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون أنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الكِتَابُ على طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وإنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أوْ تَقُولُوا لَوْ أنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الكِتَابُ لَكُنَّا أهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِن رَبِّكُمْ وهُدًى ورحْمَةٌ فَمَنْ أظْلَمُ مِمَّن كَذَّب بآياتِ اللَّهِ وصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الذِينَ يَصْدِفُونَ عن آيَاتِنَا سُوءَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ)).
ومناسبة الربط بين ختام سورة ((فاطر)) وبداية سورة ((يس)) هو النفور والاستكبار عن قَبُول ما جاء به النذير الذي كانوا يترقبونه ويتطلعون إلى بعثته بشوق ولهفة، فإذا بهم يخيسون بالعهد ويَنْكثون مواثيقهم وأيمانهم بدعوى أن هذا النذير ليس هو، فكان الجواب : ((يس والقُرآن الحَكِيمِ إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ..)).