ركائز الفقه الدعوي عند العلامة أبي الحسن الندوي 2/4


6- البناء لا الهدم، والجمع لا التفريق:

والركيزة السادسة : أن الشيخ الندوي جعل همه  في البناء لا الهدم، والجمع لا التفريق وأنا  أشبه هنا بالإمام حسن البنا رحمه الله، الذي كان حريصا على  هذا الاتجاه الذي شعاره : نبني ولا نهدم، ونجمع لا نفرق، ونقرب ولا نباعد، ولهذا تبني قاعدة المنار الذهبية : (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا) وهذا هو توجه شيخنا الندوي فهو يبعد ما استطاع عن الأساليب الحادة، والعبارات الجارحة والموضوعات المفرقة، ولا يقيم مدارك حول المسائل الجزئية، والقضايا الخلافية.

ولا يعني هذا أنه يداهن في دينه، أو يسكت عن باطل يراه أو خطأ جسيم يشاهده، بل هو ينطق بما يعتقده من حق، وينقد ما يراه من باطل أو خطأ، لكن بالتي هي أحسن، كما رأيناه في نقده للشيعة في موقفهم من الصحابة(صورتان متضادتان) وفي نقده للعلامة أبي الأعلى المدودي والشهيد سيد قطب، فيما سماه (التفسيرالسياسي للإسلام) وإن كنت وددت لو اتخذ له عنوانا غير هذا العنوان، الذي قد يستغله العلمانيون في وقوفهم ضد (شمول الاسلام) قد صارحت الشيخ بذلك ووافقني عليه حفظه الله.

7- إحياء روح الجهاد في سبيل الله :

والركيزة السابعة : هي إحياء روح الجهاد في سبيل الله، وتعبئة قوى الأمة النفسية للدفاع عن ذاتيتها ووجودها، وإيقاد شعلة الحماسة للدين في صدور الأمة، التي حاولت القوى المعادية للاسلام إخمادها، ومقاومة روح البطالة والقعود، والوهن النفسي، الذي هو حب الدنيا وكراهية الموت، وهذا واضح في كتابه(ماذا خسر العالم) وفي كتابه (إذا هبت ريح الإيمان) وفي حديثه الدافق المعبر عن الامام أحمد بن عرفان الشهيد وجماعته ودعوته، وعن صلاح الدين الأيوبي وأمثاله من أبطال الإسلام.

ومنذ رسائله الأولى وهو ينفخ في هذه الروح، ويهيب بالأمة أن تنتفض للذود عن حماها، وتقوم بواجب الجهاد بكل مراتبه ومستوياته حتى تكون كلمة الله هي العليا.

8- استيحاء التاريخ الاسلامي وبطولاته:

والركيزة الثامنة : استيحاء التاريخ ـ ولا سيما تاريخنا  الاسلامي ـ لاستنهاض الأمة من كبوتها، فالتاريخ هو ذاكرة الأمة، ومخزن عبرها، ومستودع بطولاتها، والشيخ يملك حسا تاريخيا فريدا، ووعيا نادرا بأحداثه الكبار، والدروس المستفادة منها، كما تجلى ذلك في رسالته المبكرة (المد والجزر في تاريخ الاسلام) وفي كتابه (ماذا خسر العالم) وفي غيره، التاريخ عنده ليس هو تاريخ الملوك والأمراء وحدهم، بل تاريخ الشعوب والعلماء والمصلحين الربانيين.

ليس هو التاريخ السياسي فقط، بل السياسي والاجتماعي والثقافي والإيماني والجهادي، ولهذا يستنطق التاريخ بمعناه الواسعن ولا يكتفي بمصاد التاريخ الرسمية، بل يضم إليها كتب الدين، والادب، والطبقات المختلفة، وغيرها، ويستلهم موقف الرجال الأفذاذ، وخصوصا المجددين والمصلحين، كما في كتابه (رجال الفكر والدعوة في الاسلام) الذي بين فيه أن     الجديد خلال تاريخ الأمة : حلقات متصلة…… ويغيب كوكب ليطلع كوكب …. في التاريخ، إنما هو في منهج كتابته وتأليفه.

9- نقد الفكرة الغريبة والحضارية المادية :

وللركيزة التاسعة : هي نقد الجاهلية الحديثة، المتمثلة في الفكرة الغربية، والحضارة المادية المعاصرة، ورؤيته هنا واضحة كل الوضوح لحقيقة الحضارة الغربية وخصائصها، واستمدادها من الحضارتين : الرومانية واليونانية، وما فيهما من غلبة الوثنية، والنزعة المادية الحسية، والعصبية القومية، وهو واع تماما للصراع القائم بين الفكرة الغربية والفكرة الاسلامية وخصوصا في ميادين التعليم والتربية والثقافة والقيم والتقاليد. وقد أنكر الشيخ موقف الفريق المستسلم للغرب، المقلد له تقليدا أعمى في الخير والشر، ومثله : موقف الفريق الرافض للغرب كله، المعتزل لحضارته بمادياتها ومعنوياتها.. ونوه لشيخ بموقف الفريق الثالث، الذي لا يعتبر الغرب خيرا محضا، ولا شرا محضا. فيأخذ من الغرب وسائله لا غاياته وآلياته لا منهج حياته، فهو ينتخب من حضارته ما يلائم عقائده وقيمه، ويرفض مالا يلائمه. واهتم الشيخ هنا بشعر د. اقبال باعتباره أبرز ثائر على الحضارة المادية، مع عمق دراسته لها، وتغلغله في أعماقها.

وقد تجلى هذا في كثير من كتبه ورسائله، ولا سيما : حديث مع الغرب.. ماذا خسر العالم.. الصرع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية.. أحاديث صريحة في أمريكا.. محاضرة (الاسلام والغرب) في أوكسفورد.

10 ـ نقد الفكرة القومية والعصبيات الجاهلية:

والركيزة العاشرة : نقد ما شاع في العالم العربي والعالم الاسلامي كله، من التنادي بفكرة (القومية) القائمة على إحياء العصبيات الجاهلية، بعد ما أرم الله به هذه الأمة من الأخوة الاسلامية،  والإيمان بالعالمية، والبراءة من كل من دعا إلى العصبية، أو قاتل على عصبية أو مات على عصبية. وأشد ما آلمه : أن تتغلغل هذه الفكرة بين  (العرب) الذين هم عصبة الاسلام، وحملة رسالته، وحفظة كتابه وسنته، وهو واحد منهم نسبا وفكرا وروحا.

لذا وقف في وجه(القومية العربية) العلمانية المعادية للاسلام، المفرقة بين المسلم، والتي اعتبرها بعضهم (نبوة جديدة) أو (ديانة جديدة) تجمع العرب على معتقدات ومفاهيم وقيم غير ما جاء به محمد(ص) . الذي هدى الله به أمة العرب، وجمعهم به من فرقة وأخرجهم به من ظلمات إلى النور. وهو رغم رفضه للقومية، لا ينكر فضل العرب ودورهم وريادتهم، بل هو يستنهض العرب في محاضراته ورسائله وكتبه للقيام بمهمتهم، والمناداة بعقائدهم ومبادئهم في وجه العالم، كما نادى ربعي بن عامر، في مواجهة قادة الفرس، وهو يقول في “ماذا خسر العالم” (محمد رسول الله روح العالم العربي)، ويوجه رسالة عنوانها : اسمعوها مني صريحة أيها العرب. ورسالة أخرى : العرب والاسلام.. الفتح للمعرب للمسلمين.. اسمعي يا مصر.. اسمعي يا سورية اسمعي يا زهرة الصحراء( يعني : الكويت).. كيف ينظر المسلمون إلى الحجاز والجريدة وجزيرة العرب؟.. كيف يدخل التاريخ.. العرب .. العرب يكتشفون أنفسهم : تضحية شباب العرب إلى آخره..

د. يوسف القرضاوي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>