عبد الواحد المهداوي
لقد كانت الرصاصة المميتة التي أطلقها “إيغال أمير” على إسحاق رابين بداية للصدمة في صفوف “معسكر السلام العربي” فقد كان الرجل في رأي هؤلاء بطلا من أبطال السلام، ورمزاً للواقعية السياسية في زمن التطرف وأصبح في رأيهم بعد اغتياله شهيدا للسلام فهرع المهرولون لتشييع جنازته على >أرض الميعاد< وسالت على خدود بعضهم دموع الجد، لأن الأمر يتعلق بفقدان صديق شجاع كما قال أحدهم، وتسلق شيمون بريز سدة الحكم مستغلا تعاطف الإسرائليين مع شقيقه في السلام (رابين) ومستفيدا من الدعم الدولي والإمريكي خاصة، ومن التزكية العربية، وجاءت الإنتخابات وبدا”المعسكر العربي” خائفا يترقب يتابع استطلاعات الرأي عن كتب، فتارة ينشرح صدره، وتارة ينقبض خوفا من المفاجأة فكان “الخميس الأسود” اليوم الذي أعلن فيه عن نتائج الإنتخابات.. اليوم الذي اعلن فيه عن سقوط “الحمائم” ونهوض “الصقور”! فكانت (الرصاصة الثانية التي أردت بريز قتيلا) وأضافت هزيمة جديدة لسلسة الهزائم التي مني بها “معسكر السلام العربي”.
عند قراءة نتائج الإنتخابات الإسرائلية، نتساءل : من الفائز الحقيقي فيها؟ قد يبدو السؤال استنكاريا، خصوصا وأن الأرقام أبانت عن تقدم واضح لتكتل (اللكود) بزعامة (بنيامين نتنياهو) عن التشكيلات الحزبية الإسرائلية لكن قراءة متفحصة لهذه النتائج تكشف عن الحقائق التالية :
- حصل حزب العمل على 34 مقعداً بعد أن كان يمتلك 40 مقعداً في انتخابات 92، أي تراجع بـ6 مقاعد.
- حصل حزب (اللَّكود) على 32 مقعداً وكان يملك 40 مقعداً في 92 أي تراجع بـ8 مقاعد.
- أما الأحزاب الدينية واليمينية المتطرفة، فقد تقدمت بالمقارنة مع انتخابات 92 بـ50% من المقاعد التي كانت تملك.
هذا عن الانتخابات البرلمانية، أما انتخابات رئاسة الوزراء فقد حصل نتنياهو على 50.4% في حين حصل بريز على 49.5% من هنا نسجل تراجع الحزبين الكبيرين (العمل) و(اللكود) وتقدما واضحا للاحزاب الدينية وقد جاءت هذه النتائج لتكشف من جديد عن نزوع المجتمع الصهيوني للعنف والتطرف المعهود، وعدم رضاه على (التنازلات) التى قدمها رابين وخَلَفِه للعرب، هذا الاستنتاج ليس غريباً فالخطاب القرآني طالما حذرنا من اليهود ومن كيدهم، ومكرهم المستمر، يقول الله تعالى في سورة المائدة : {لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين اشركوا…} ويقول في سورة البقرة : {أوكلما عاهدوا عهداً نبذه فريق منهم…} لقد عقد (العمل) عقوداً مع العرب وهاهو (اللكود) جاء لينبذها. لا نريد أن نسبق الأحداث كما قال (كلنتون) محذراً العرب، ولكن قراءة في شعارات نتنياهو في حملته الإنتخابية كافية للكشف عن نواياه الشريرة، فقد كان يتحدث على أن نهر الأردن يعتبر الحدود الشرقية لـ”إسرائيل” وكان يتحدث عن تكثيف الإستيطان، ويتحدث عن (أوسلو) على أنها خيانة (للشعب اليهودي) والأخطر من ذلك أنه لا يؤمن بشيء إسمه الدولة الفلسطنية المستقلة…
فماذا عن “معسكر السلام العربي”؟ لقد اصيبت السلطة الفلسطينية بصدمة أعقبها صمت غير معهود. فقد عهدنا من ياسر عرفات تنديده الفوري بالعمليات الإستشهادية التي تشنها “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”حزب الله” ووصف منفذيها بالمجرمين والعمالة لدولة أجنبية، وعهدنا منه السرعة في ارسال برقيات التعازي لصديقه في السلام “رابين” لكن هذه السلطة سرعان ما طلعت علينا بكلمات خافتة (إننا نتعامل مع الحكومة وليس مع الاحزاب الإسرائلية)!! ثم سرعان ما صرحت كَرَدِّ على عدم اعتراف نتنياهو بالدولة الفلسطينية بأن (الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية سيكون قريبا).
أما بقية أطراف المعسكر فقد كثرت بينهم الهرولة، فبدأنا نسمع باللقاءات الثنائية والثلاثية، ليعلن (حسني مبارك) عن ميلاد قمة عربية (لمدارسة الموقف واتخاذ الإجراءات اللازمة) وأنا أقول مع (لوفيگارو الفرنسية) (إن هذا الرجل -أي نتنياهو- جاء ليجمع كلمة العرب). فما أحوجنا إلى من يجمع شملنا، ويوحد كلمتنا، ولو من اعدائنا، في هذا الوقت الذي بلغ فيه السقوط العربي حداً لا يطاق.
لكنها قمة عربية لأي عرب؟ فهناك عرب دون عرب، لقد استُثْني من الدعوة البعض بدعوى عدم إثارة الحساسيات ، وإلا فما علاقة انعقاد قمة عربية، بالحساسيات وبالخلافات الثنائية التي أضاعت الكثير من الحقوق وشتتت الصف العربي وسهلت التطبيع.
لقد بدأ بعض السياسيين الفلسطينيين من أمثال حنان العشراوي يطالبون بتوقيف التطبيع في حال عدم اعتراف نتنياهو بدولة فلسطين ولست أدري ما هي البوابة التي دخل منها التطبيع للعالم العربي؟ أليست هي بوابة “أسلو” التي كانت العشراوي إحدى الموقعين عليها؟ إن التطبيع ماض إلى غير رجعة ما لم تع الشعوب العربية والإسلامية مخاطره، وما لم تتوقف النخب العربية المتنفذة عن عملية التدجين التي تتعامل بها مع شعوبها، وما لم تكف عن قمع الأصوات الحرة التي تعبر بحق عن ضمير هذه الأمة. وإلاَّ فقطار التطبيع سيمضي إلى حيث رسم له، بل أبعد من ذلك.
وأخيراً لقد اعتقد الكثير من (دعاة السلام) أن العمليات الاستشهادية التي شنتها “حماس” و”الجهاد” و”حزب الله” هي التي جاءت بنتنياهو إلى الكنيست وأقول لهؤلاء المصْدُومين، إذا كان الدفاع عن الأرض والحرية والكرامة أتى بنتنياهو فمرحى به، وعجبت لهؤلاء الذين يفرقون بين (نتنياهو) و(بريز) فالفرق بينهما هو الفرق بين من يريد أن يأكلك بشراهة ومن يتفنن في أكلك.