دور المقاصد في إعادة تشكيل العقل المسلم


محمد العزيزي

لا أحد منا يجادل في الازمة التي اصابت التفكير الاسلامي منذ أمد بعيد، وإلى عصرنا الحالي. هذه الازمة التي شملت كل الميادين، وإن هذه الحالة المرضية الخطيرة التي اصبح يعاني منها العقل المسلم الآن، لتستدعي منا -أكثر من أي وقت مضى- ان نوجد لها العلاج. ولا أرى ممارسة الاسباب، وتحديد العلل، واعتبار الحكم، ومراعاة المقاصد، والأخذ بالمصالح إلا انجع حل لهذه الحالة. وهو حل (سوف يساعد على إخراج العقل المسلم من تلك الوهدة، ويعالجه من تلك الامراض، ويعيد إليه -بإذن الله- نقاءه وصفاءه وتألقه وقدرته على العطاء والاجتهاد وترتيب الاولويات وتوخي المقاصد)(1). فبمعرفة العلل والمقاصد يتشكل العقل العلمي، ويتصف بالضبط والاتزان، ويتقي الخلط والاضطراب. وبمعرفتها يستطيع العقل المسلم إيجاد الحلول لما استجد من الوقائع والحوادث. وبمعرفتها يتسنى له ترتيب الاولويات وفقه الموازنات، فيتمكن بذلك من وضع الامور في محلها، أين ينبغي، ومتى ينبغي، وكيف ينبغي. وبمعرفتها يكون بوسع هذا العقل تنزيل المبادئ والقيم على الواقع بالشكل المطلوب. في حين ان الغاء المقاصد، وعدم الالتفات إليها قد يعرقل تنزيل القيم الشرعية، واسقاطها على  الواقع (فحين تشيع بين الناس أفكار تنفي العلل، وتنفي المقاصد أو تقلل من شأنها او تخلط بين مقاصد الشارع ومقاصد المكلفين، فان عملية تنزيل الشرع على الواقع تصاب اصابة بالغة وتتعدد الآثار السلبية الجانبية لها)(2).

كما أن اهمال التعليل، وعدم التزامه من شأنه ان يؤدي الى انفصام في شخصية المسلم، وجعله عاجزا عن تطبيق الفكرة التي يتبناها، او ترجمتها إلى سلوك عملي. (فحين يتسرب إلى العقل تصور بأن الاحكام تخلو من المقصد.. فإن ضرراً بالغا يصيب تصور الانسان لفعله -الذي هو موضع ايقاع الحكم- وسوف يضطرب وتضطرب معه نظرة الانسان لارادته ولقيمة فعله ومصدر تقويم ذلك الفعل إلى غير ذلك من السلبيات)(3).

ولهذا، نرى بأن الوضع الذي عليه التفكير الاسلامي اليوم، ان على مستوى المضمون او على مستوى الشكل، أقل ما يمكن أن يقال عنه، انه وضع لا نحسد عليه. فاذا اردنا تمحيص هذه الحقيقة على مستوى الشكل مثلا، نجد اختلال المناهج وفساد الآليات، وهذا -في حد ذاته- يعود لغياب ذلك العقل الغائي التعليلي المقاصدي، الذي يعتمد الكليات ويراعي المقاصد.

وقد مثل د.حسن الترابي لهذا الاختلال والفساد الذين لحقا منهج التفكير الاسلامي، عندما قال : “ان الامر قد يكون مكروها، وقد يكون مكروها كراهة تحريم، وقد يكون حراما، وقد يكون كبيرا، وقد يكون كفرا، وقد يكون مندوبا، وقد يكون مستحسنا، وقد يكون واجبا، وقد يكون فرضا، هذا التدرج الآن استبدل بأمرين اثنين بين حرام وواجب، أمور صغيرة كثيرة… يطلق عليها : هذا حرام، وهذا كفر، وذاك واجب، وهذا فرض… واذا لم تفعل ذلك فلست مسلما. اختلت الاولويات لاننا ننظر هذه النظرة الفروعية”(4).

اما اذا أردنا تمحيص هذه الحقيقة نفسها على مستوى المضمون، فإنا نجد الانحطاط والضعف، والجمود والتقليد. فمثلا في مجال الفقه، نرى أنه بينما كنا نسمع عن العقل المسلم، وما بلغه من ذروة في الاجتهاد الفقهي -زمن السلف الصالح- حيث ساد -إلى جانب القضاء في كل ما يجد ويقع- الفقه الافتراضي، نجد العقل المسلم اليوم -على العكس تماما- عاجزاً ولا يزال عن ايجاد ولو الحلول للنوازل المستجدة. وهذا الانحطاط والجمود الذي أصاب التفكير الفقهي يعود -بالاساس- إلى (اهمال النظر في مقاصد الشريعة وأحكامها)(5).

ومن ثم فإن اعادة الاعتبار لفقه المقاصد، وفقه الاولويات، وفقه الموازنات، ووضع هذه الافقاه الثلاثة في المقام الاول، ثم يرتب بعدها ما عداها، هي (خطوة ضرورية لاعادة تشكيل العقل المسلم، ولاعادة ترتيب موازينه وأولوياته)(6).

الهوامش :

1- من تصدير طه جابر العلواني، لكتاب المقاصد العامة، ليوسف العالم، 7

2- المرجع نفسه، 4

3- نفسه. /  4- تجديد الفكر الاسلامي، 7.

5- أليس الصبح بقريب : الطاهر بن عاشور، 200.

6- من تقديم لطه جابر، لكتاب نظرية المقاصد عند الامام الشاطبي : للريسوني.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>