الدعوة الى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة


ذ. الأزهر الوزاني التهامي

يتضمن القرآن الكريم آيات كثيرة تعرضت للدعوة الى الله تعالى، الا ان هناك آية واحدة نستطيع أن نجد فيها المبادئ والأسس القويمة الواضحة لبيان الأسلوب القرآني في الدعوة الكريمة التي شرف الله بها البشرية على يد خاتم أنبيائه ورسله محمد صلى الله عليه وسلم.

وتتضمن هذه الآية الطريقة التي ينبغي على الدعاة أن ينتهجوها حتى يوفقوا في تبليغ الرسالة وتأدية الأمانة. هذه الآية هي قول الله تعالى : >ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله. وهو أعلم بالمهتدين<(سورة النحل الآية 125).

تبتدئ الآية الكريمة بهذا الأمر الإلهي :

ادع الى سبيل ربك :

الدعوة الى الله تعالى معناها طلب الناس أن يؤمنوا به عز وجل وبكل ما جاء به وبلغه الرسول صلى الله عليه وسلمالذي لا ينطق عن الهوى… وهذا الإيمان ينبغي اقترانه بالعمل.

قال تعالى : >قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة انا ومن اتبعني<(سورة يوسف الآية 108).

وقال تعالى : >قال رب إني دعوت قومي ليلا ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً<(سورة نوح الآية 5).

وسبيل الله أي طريقه وهو مجاز لكل عمل من شأنه أن يبلغ عامله إلى رضى الله تعالى واضافة “سبيل” الى “ربك” باعتبار أن الله أرشد اليه وأمر بالتزامه، وهذه الإضافة تجريد للاستعارة، والمعنى المراد دين الاسلام ومن يبتغ غير هذا السبيل دينا فإن الله لا يقبله.

قال تعالى : >ان الدين عند الله الإسلام…<(سورة آل عمران الآية 18) وقال : >ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين<(سورة آل عمران الآية 85).

ثم بيّن الله سبحانه وتعالى كيفية تبليغ الدعوة للناس فقال :

بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن :

اولا : الحكمة : هي المعرفة الصائبة المجردة من الخطإ، وروي عن مالك بن أنس انها المعرفة بدين الله والفقه فيه والاتباع له.

قال تعالى : >وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب<(سورة ص الآية : 20) وقال تعالى : >ولقد اتينا لقمان الحكمة ان اشكر لله<(سورة لقمان الآىة 2) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >لاحسد الا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها<(رواه الشيخان عن عبد الله بن مسعود). والدعوة بالحكمة تقتضي كما ذكر سيد قطب رحمه الله : “النظر في أحوال المخاطبين والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يُثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه”(في ظلال القرآن لسيد قطب ج 4 ص 2202).

ثانيا : الموعظة الحسنة : معناها كما في القاموس تذكير الشخص بما يلين قلبه من الثواب والعقاب، يقال وعظته فاتعظ اذا أثرت فيه الموعظة. ووصفها بالحسنة تحريض على أن تكون النية مقبولة عند الناس أي حسنة في جنسها، وعطف الموعظة على الحكمة لأنها تغاير الحكمة بالعموم والخصوص الوجهي فإنه قد يُسلك بالموعظة مسلك الإقناع، فمن الموعظة حكمة ومنها خطابة ومنها جدل(التحرير  والتنوير محمد الطاهر بن عاشور ص 237). والموعظة الحسنة هي التي تدخل إلى القلوب برفق، وتتعمق المشاعر بلطف، لا بالزجز والتأنيب في غير موجب، ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية، فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة ويؤلف القلوب النافرة، ويأتي بخير من الزجر والتأنيب التوبيخ(في ظلال القرآن سيد قطب ج 4  2202). وقيدت الموعظة بالحسنة ولم تقيد الحكمة لأن الموعظة لما كان المقصود منهاغالبا ردع نفس الموعوظ عن أعماله السيئة أو من توقع ذلك منه كانت مظنة لصدور غلظة منه ولحصول انكسار في نفس الموعوظ، أرشد الله رسوله أن يتوخى في الموعظة أن تكون حسنة أي بإلانة القول وترغيب الموعوظ في الخير .

قال تعالى آمراً لموسى وهارون :

>اذهبا الى فرعون انه طغى فقولا له قولاً ليِّنا لعله يتذكر أو يخشى<(سورة طه الآية 24). وفي حديث الترمذي عن العرباض بن سارية أنه قال : >وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون<-الحديث-

وجادلهم بالتي هي أحسن :

المجادلة : أصل المادة (جدل) يقول علماء اللغة جدل الرجل جدلا فهو جدل من باب تعب إذا اشتدت خصومته، وجادل مجادلة وجدالاً اذا خاصم بما يُشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ولما كان ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين قد يبعثه على الغلظة عليهم في المجادلة امره الله بأن يجادلهم بالتيهي أحسن(التحرير والتنوير لابن عاشور) >ولا تجادل عند الذين يختانون أنفسهم<(سورة النساء الآية 107).

وقال تعالى : >ولا تجادلوا أهل الكتاب الا بالتي هي أحسن<(سورة العنكبوت الآية 46). ان الجدل بالتي هي أحسن بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح حتى يطمئن الى الداعي ويشعر ان ليس هدفه الغلبة في الجدل ولكن الاقناع والوصول إلى الحق، فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه الا بالرفق حتى لا يشعر بالهزيمة.

والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة ويشعر المجادل أن ذاته مصونة وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها والاهتداء إليها في سبيل الله لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر(في ظلال القرآن سيد قطب ص 2202).

ان الواجب على المسلم وهو يتحمل أمانة تبليغ هذه الدعوة للناس ان يجادل بالتي هي أحسن جذباً للقلوب النافرة وتقريبا للانفس المتباعدة.

ومن بالتي هي أحسن : ذكر مواضع الاتفاق بين المتجادلين والانطلاق منها الى مواضع الخِلاف عسى أن يتفق عليها(الصحوة الاسلامية بين الجمود والتطرف يوسف القرضاوي ص 202). كما في قوله تعالى : >ولا تجادلوا اهل الكتاب الا بالتي هي أحسن الا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل اليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون<(سورة العنكبوت الآىة 46).

واذا كان المسلم مطالبا بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن فكيف يكون جداله لأخيه المسلم وقد أظلتهما الأخوة الدينية ووحدة العقيدة؟

ان بعض الاخوة يخلطون بين الصراحة في الحق والخشونة في الاسلوب مع انه لا تلازم بينهما، والداعية الحكيم هو الذي يوصل الدعوة الى غيره بألين الطرق وأرق العبارات دون أدنى تفريط في المضمون(الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف يوسف القرضاوي ص 202).

وذكرالامام الغزالي رحمه الله في وجوب الرفق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(احياء علوم الدين كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -الغزالي- ج 2 ص : 362) ما استدل به المأمون اذ وعظه واعظ وعنف له في القول فقال : يارجل ارفق فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق فقال تعالى : >فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى< (سورة طه الآية : 44).

وروى أبو امامة : ان غلاما شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله تأذن لي في الزنا فصاح الناس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (قربوه، أُدْنُ) فدنا حتى جلس بين يديه فقال النبي عليه الصلاة والسلام : >أتحبه لأمك؟، فقال لا جعلني الله فداك، قال : كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟ قال : لا جعلني الله فداك. قال كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك، قال لا جعلني الله فداك. قال كذلك الناس لايحبونه لأخواتهم أتحبه لعمتك؟ قال : لا جعلني الله فداك، قال كذلك الناس لا يحبونه لعماتهم، أتحبه لخالتك؟ قال لا جعلني الله فداك. قال كذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم، قال الراوي فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال >اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه، فلم يكن شيء أبغض اليه منه يعني الزنا<(الحديث رواه أحمد بإسناد جيد). هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغا هذه الدعوة بالرفق واللين رافضاً كل أساليب العنف والقسوة ووصفه الله بقوله : >لقد جاءكم رسول من انفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمومنين رؤوف رحيم<(سورة التوبة : 128)، وصور علاقته بأصحابه في قوله : >فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفظوا من حولك<(سورة آل عمران 159).

ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين :

الله سبحانه يبين أنه عليم بمصير الناس وما على الرسولالا البلاغ المبين، وعليه ألاًّ ييأس من هدايتهم، وألاًّ يحزن على عدم اهتدائهم، لأن العلم بمن يهتدي ومن يضل موكول إلى الله عز وجل.

ان التخلق بهذه الآية هو ان كل من يقوم مقاما من مقامات الرسول صلى الله عليه وسلم في إرشاد المسلمين وسياستهم يجب عليه أن يكون سالكا للطرائق الثلاث :

الحكمة – الموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، والا كان منصرفا عن الآداب الاسلامية وغير خليق بماهو فيه من سياسة الأمة ويُخشى ان يعرّض مصالح الامة للتلف.

فاصلاح الامة يتطلب إبلاغ الحق اليها بهذه الوسائل الثلاث. والمجتمع الاسلامي لا يخلو من متعنت او ملبِّس وكلاهما يلقي في طريق المصلحين شوك الشُّبَه بقصد او بغير قصد، فسبيل تقويمه هو المجادلة فتلك أدنى لاقناعه وكشف قناعه(التحرير والتنوير ص 334).

هذا هو منهج الدعوة ودستورها مادام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة والاقناع، اماإن وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير، وهذا ما أرشد الله تعالى إليه في كتابه العزيز : >وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين واصبر وما صبرك إلا بالله<(سورة النحل الآية 126).

وقال سبحانه : >وكان حقا علينا نصر المومنين<(3)، فالنصر مرهون باتباع منهج الله والاستقامة عليه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>