كَثُر الجدل حول ما يسمى بالدش أو الصحون المقعرة في الآونة الأخيرة، وانقسم الناس في شأنه فئتين. فبينما لا ترى إحداهما في الدش إلا وسيلة من الوسائل -كالتلفزيون والفيديو وغيرهما- ذات حدين يحمل أحدهما صفة البناء، ويحمل الآخر صفة الهدم، ومن ثم فلا غضاضة في تبنيه واستئناسه ضمن شروط معينة، ترى الفئة الاخرى أن الدش وباء خطير وفيروس ذو شر مستطير، ومن ثم وجبت محاربته بدون هوادة وإقصاؤه من مجتمعاتنا تفاديا لشروره وآثاره الهدامة التي إن خلي بينها وبينه أتت على الأخضر واليابس وألحقت فسادا كبيراً بالأفراد والأسر والمجتمعات. والمرء العاقل ذو النظر البعيد لا يسعه إلا أن ينحاز إلى صف الفئة الثانية. لقد قرأت رأيا لإحدى الكاتبات تصدر فيه حكما تستغرب فيه الرعب الذي انتاب البعض من الدش، مفاده “أن الرعب الذي يعترينا من “الدش” وبرامج التلفزيون الاخرى بل وأفلام الفيديو والصحف والمجلات والكتب. فجميعها يتوقف ضررها وفائدتها على المحتوى” واستطردت قائلة : “إننا هنا أمام أمرين : الأول : إن ما يقال عن الدش يقال عن كافة وسائل الإعلام الأخرى والثاني : أن الامور نسبية، فما هو مفيد لي ممل لك، وما أجده غثا سخيفا قد يجده الآخرون شيئا ممتعا، ولله في خلقه شؤون”. منذ البداية أقول جازما بأنه، ليس الرعب من الدش هو الذي يفتقر إلى مبرر، بل إن هذا الحكم نفسه هو الذي يظل عاريا من أي مبرر، لان ما اقترن به من استدلالات يفتقد إلى قوة الاقناع، وهي سرعان ما تنزاح أمام الاستدلالات المضادة بأن البرامج التي تلتقط بواسطة الدش “لا تختلف عن برامج التلفزيون الأخرى وأفلام الفيديو، وكذلك عن الصحف والمجلات”، زعم خاطئ في اعتقادي إذ لا شك -ونحن نتكلم هنا في إطار مجتمعات إسلامية لها هويتها الحضارية والثقافية المتميزة- أن المفروض في برامج التلفزيون في تلك المجتمعات أن تكون أمينة للقيم والآداب التي تنسجم مع الهوية المذكورة، بل إنه حتى في حالة الانحراف والإخلال بذلك الشرط فإنها لا يمكن أن تنسلخ كلية عن تلك الهوية، اللهم إلا في حالة السقوط في مستنقع التغريب تماما، وفي تلك الحالة يكون علينا أن نتجاوز وضع “الدش” موضع الاتهام، إلى وضع التلفزيون نفسه في قفص الاتهام، أما البرامج التي يجلبها “الدش” فإنها تحمل في ثناياها قيما وأفكارا وصورا وسلوكات لحضارة أفلست في عالم القيم. إذ هي تخاطب في الانسان بعده المادي وتستنفر قواه الغريزية بشكل رهيب وتشكله تشكيلا حيوانيا تغور من جرائه سمات الانسانية وتنطمس معالم الفطرة تماما.
أما بالنسبة للفيديو فأمره مختلف تماما عن “الدش” لأن المفروض في أشرطته المتداولة أن تخضع للرقابة الصارمة، فلا يسمح مجتمع يحترم نفسه ويحرص على سلامة أفراده من التلوث برواج ما يهدد كيانه بالتسوس والخراب.
بينما “الصحون المقعرة” فإنها.. إن سمح لها باعتلاء السطوح -ستعربد لا محالة من خلال ما تمتصه من برامج مسفة مفسدة، وتنقع عقول الافراد والاسر بسمها الزعاف، لانها تطوي المسافات وتخترق الحدود وتأتي من الآفاق بكل شر وبيل تزرع جراثيمه في تربة المسلمين.
أما الصحف والمجلات والكتب فاختلافها واضح بين، ويكاد يبرز للنظر منذ الوهلة الاولى، ذلك أن تأثير تلك الوسائل، حتى لو فرضنا أنها تحمل محتويات منافية لعقيدة الامة وقيمها الحضارية، فإن تأثيرها يظل محدودا ومحصورا في دائرة المثقفين والمتعلمين، باعتبار النسبة العالية للامية المتفشية في المجتمعات الاسلامية، بينما تأثير البرامج الملتقطة بواسطة “الدش” تأثير كاسح يشمل المجتمع برمته، ولكن إصابات الفئات الأمية أشد وأعتى.
وهنا أجدني وجها لوجه مع العلاج الذي وصفته تلك الكاتبة لتلافي مضار “الدش” فهي تقول بأن “الخوف من الدش عائد لاننا لم نعد نستطيع التحكم في المحتوى” ومن ثم فإن العلاج -بكل بساطة- هو تنمية “ملكة الاختيار والقدرة الارادية على التفريق بين الغث والسمين في إطار أخلاقيات الدين والمجتمع” ولو أن الكاتبة رتبت أحكامها على شروط معينة على أساس أنها تتحدث عما ينبغي أن يكون، لما كان في الأمر خلاف، لكن والحال أنها تتحدث عما ينبغي أن يكون جاعلة إياه في مستوى ما هو كائن، أو على الاقل ما يمكن تحويله بجرة قلم الى تلك الصفة، فهنا يقوم الاشكال، لانها تدافع عن “الدش” على الرغم من جميع الموانع التي تجعل من شروطها وضوابطها مجرد افتراضات وتمنيات لا تمثل لها في الواقع، فلقد سبقت الإشارة إلى أننا أمام مجتمعات تتفشى فيها الامية، فأنَّى للافراد فيها أن يكتسبوا “ملكة الاختيار والقدرة الارادية على التفريق بين الغث والسمين” بل إن الخصلة المذكورة قد تفتقدها حتى فئات عريضة من المثقفين والمتعلمين بحكم اهتزاز البناء الثقافي والتربوي لديها. أضف إلى ذلك أنه لا ينبغي أن نغفل عن واقع يفرض نفسه فيما يتعلق بجهاز التلفزيون وهو أنه يتمتع بقدرة سحرية عجيبة وبجاذبية عنيفة لا يسلم من تأثيرها وسلطانها إلا أولو الالباب وذوو العزائم القوية. وبحكم افتقار أغلب الاسر إلى قيادات متينة تفصل بهمة وحسم في أمر استعمال جهاز التلفزيون وما يتلقاه من قنوات، فإننا نصبح أمام أمر واقع لا يمكن أن نغمض عنه أعيننا، وهو أن استعمال الدش سيغرق مجتمعاتنا الاسلامية بطوفان من البرامج المسمومة التي ستلحق بشخصيتنا الاسلامية تشوهات هائلة وتهددها بالاضطراب والتلف.وانطلاقا من الصفة التي أشرت اليها، وهي صفة الجاذبية القوية التي يتمتع بها التلفزيون، فإنه لا يجدي معها حتى ما أشارت اليه الكاتبة من كون “بعض أجهزة الاستقبال مزودة بجهاز تحكم بحيث باستطاعتك إلغاء بعض القنوات تماما أو إلغاء الصوت”.
أقول إن وجود هذه الامكانيات قد لا يجدي إلا في حالات نادرة لا يعتد بها خاصة إذا عرفنا أن من أخص خصائص الانسان حبه للكشف والاستطلاع ولا ننسى أيضا أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهو لا يفتأ ينزعه تحت دوافع شتى ومبررات متعددة، حتى يسقطه في أحابيله وتنطلي عليه حيله الماكرة. ومن جملة ما يستعمله لذلك تيار العدوى وتناقل الاخبار بين الناس الذي يملك قوة تأثيرية لا تنكر، وفي ضوء هذه المعطيات تظل النصائح والتوجيهات التي قدمتها الكاتبة محدودة الجدوى، لان الأمر مرهون بعوامل وشروط ذاتية وموضوعية بالغة التعقيد.
وأنتقل الى مناقشة الحجة الثانية التي أوردتها الكاتبة وهي : “أن الأمور نسبية، فما هو مفيد لي ممل لك، وما أجده غثا سخيفا قد يجده الآخرون شيقا ممتعا ولله في خلقه شؤون”!
إني أعتقد أن هذه الحجة تكتسي طابعا سلبيا من جهتين :
أما الجهة الاولى فهي كونها تتناقض مع السياق العام الذي حللت الكاتبة في إطاره الموضوع، والذي اعترفت ضمنه بوجود برامج فاسدة ينبغي الحذر منها، وقنوات خطيرة ينبغي إلغاؤها.
وأما الجهة الثانية فتتمثل في السقوط في نسبية الاحكام، وهو أمر يمكن الأخذ به إلاَّ في حدود ضيقة، من قبيل ما نجده من فرق بين شخص يميل إلى تسلق الجبال ويراه ممتعا وشيقا، وشخص آخر يرى ذلك مملا ويؤثر عليه السباحة أو التجوال في الغابات وممارسة الصيد، ولا يمكن على الاطلاق أن يدخل في اختلاف الاذواق والميول الذي لا غضاضة فيه، الاختلاف بين شخص فاسد الفطرة خبيث النفس يستسيغ ما يبثه الدش من أفلام جنسية فاضحة أو لقطات إشهارية داعرة، وما الى ذلك من مشاهد هدامة ويعتبرها ممتعة وشيقة، وشخص آخر سليم الفطرة طيب النفس يمج ذوقه النظيف تلك المشاهد المنتنة ويحكم عليها بالسخف والفساد. إن إدراج الاختلاف الاخير في الاختلاف الذي هو من طبائع النفس البشرية السوية، يعتبر سقوطا في السوفسطائية التي تقول بتعدد الحقائق، وهو أمر من الخطورة بمكان. فنحن كمسلمين مطالبون بأن نقيس الامور الى الحقيقة الفطرية التي يزكيها الشرع الحكيم، فالغث والسخيف هو ما حكم عليه الشرع بذلك وعافته الفطرة السليمة. والمفيد مفيد لان الشرع وصفه بذلك وقبلته الفطرة السليمة. أما ما يصيب الاذواق من سقم يجعلها ترى الخبيث طيبا والطيب خبيثا فهذا خروج على الفطرة لا يمكن أن نعطيه صفة الشرعية تحت عبارة “ولله في خلقه شؤون” فالمقياس أولا وآخرا هو الذوق الرفيع الذي يمنح من الفطرة التي جاء الشرع لحمايتها بمنهجه القويم، الذي يقتضي من جملة ما يقتضيه، سد جميع الذرائع التي يتسرب منها الفساد.