الحياء قاعدة حضارية جَامعة تقتضي الحفاظ على  مقاصد الشريعة ومكارمها


تبيان ذلك انطلاقا من الحديث التالي :

نص الحديث : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ((استحيوا من الله حق الحياء، قالوا : إنا لنستحي من الله والحمد لله! قال : ليس ذاك، من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا،من فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء))(رواه الإمام الترمذي).

- بيان المصطلحات :

* استحيوا : الحياء هو انقباض النفس عن إتيان أمر مخافة الذم، وقال العلماء : حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق. وقال الواحدي : الاستحياء من الحياة، واستحياء الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع العيب. والحياء من قوة الحس ولطفه وقوة الحياة.

* الرأس وما وعى : المراد ما يتضمنه الرأس ويجمعه من سمع، وبصر ولسان، فلا يسمع إلى فحش، ولا يتكلم بهُجْر، ولا ينظر إلى حرام، قال تعالى : {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}.

* البطن وما حوى : المراد حفظ نفسه من أكل الحرام، وحفظ فرجه من الزنى، لأن البطن يحوي شهوتي الطعام والجنس.

* البلى : بمعنى الفناء والهلاك والموت.

* زينة الدنيا : المقصود زخرفتها وبهرجها الخادع الذي يفتتن به كثير من الناس.

- الشرح الأدبي لنص الحديث :

يعتبر هذا الحديث من التوجيهات التربوية العظيمة، الصادرة من الرسول عليه السلام للأمة المسلمة، أفرادا وجماعات.

فالحديث من أهم القواعد المنهجية في التربية النبوية، إذ يركز على أخطر الأشياء التي توجد في الإنسان، والتي يعتبر حفظها منارة هداه واستقامته على خط الإسلام.

إنه قبس من أقباس النبوة، وشعلة من شعل الإيمان، يرشدنا إليها نبي الهدى والرحمة، لنجعلها نبراسا لنا في الحياة، يضيء أمامنا طريق النجاة، ويأخذ بأيدينا إلى مدارج العز والسعادة في الدارين. فلا خير في إنسان تعَرَّى عن الفضائل ومكارم الأخلاق، ولا قيمة له إذا فقد خلق الحياء العظيم. فالأمم والشعوب إنما تشاد بأخلاقها، والمجتمعات إنما توزن بآدابها، وإذا لم يكن عند المرء خلق وأدب فلا خير فيه، وقديما قال الشاعر:

إذا لم تخش عاقبة الليالي     ***     ولم تستحي فاصنع ما تشاء

فلا والله ما في العيش خير     ***     ولا الدنيا إذا ذهب الحياء

يعيش المرء ما استحيا بخير     ***     ويبقى العود ما بقي الحياء.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم يحث أصحابه الكرام خاصة، والمسلمين عامة على امتداد التاريخ في هذا الحديث على التخلق بخلق الحياء الكريم، الذي هو من صفات المؤمن الحق، الصادق الإيمان، ويرشدهم إلى حقيقة الحياء الذي يحبه الله تعالى ويريده لعباده، الحياء الذي يعصم صاحبه من الانحراف والزيغ، واتباع هوى النفس الأمارة بالسوء، فيقول صلى اله عليه وسلم : >استحيوا من الله حق الحياء<

فليس المقصود هو مجرد التظاهر بالحياء، أو التخلق به بالشكل الذي تعارف عليه الناس، بل المقصود أن يدرك المؤمن حقيقة هذا الخلق العظيم، الذي هو ثمرة الإيمان الصادق.

إن الحياء الحقيقي هو الذي يسمو بصاحبه نحو الكمال، ويرتفع به عن حضيض المعاصي والرذائل التي انغمس فيها كثير من الناس، حيث تملكتهم شهواتهم وأهواؤهم، فساروا معها، ولم يصونوا جوارحهم وأعضاءهم، ولهذا نبه المصطفى صلى الله عليه وسلم على المعنى الدقيق للحياء حيث قال : “من استحيا من الله حق الحياء، فليحفظ الرأس وما وعى، …”.

ومما تقدم يتضح أن الحياء أمارة صادقة على طبيعة الإنسان فهو يكشف عن قيمة إىمانه ومقدار أدبه. وعندما ترى الشخص يتحرج من فعل ما لا ينبغي فاعلم أنه حي الضمير، نقي المعدن، زكي العنصر، وإذا رأيت الشخص صفيقا بليد الشعور لا يبالي فيما يعمل أو يذر، فاعلم أنه ميت الضمير، وليس له من الحياء وازع يعصمه عن اقتراف الآثام وارتكاب الدنايا.

ولهذا كان الحياء قاعدة من قواعد الأخلاق الاسلامية، بل وأفضلها. قال صلى الله عليه وسلم: “إن لكل دين خلقا وخلق الإسلام الحياء”-مالك في الموطأ-، وهذا الحديث يلخص لنا إحدى القواعد العظيمة في الدين وهي أن “الإلتزام الحقيقي بالدين يقوم على خلق الحياء”.

إن الإيمان صلة كريمة بين العباد وربهم،ومن أثر هذه الصلة تزكية النفس، وتقويم الأخلاق، وتهذيب السلوك والعمل، ولن يتم ذلك إلا إذا تأسست في النفس خلصة الحياء، وترسخت فيها لأنها هي الوازع الذي يحمل المسلم على الإقبال على الخير، والإدبار عن الشر وقبائح الأفعال وسوء الأخلاق.

وعلى العكس من ذلك فإن فقدان الإنسان لصفة الحياء، يدفع بالنفس نحو النزوع إلى الشر وفعله، وترك الخير والتنكر له، وذلك دليل فقدان النفس لحيائها وإيمانها معا.

قال صلى الله عليه وسلم : “الحياء والإيمان قرناء جميعا فإذا رفع أحدهما رفع الآخر”(رواه الحاكم).

وحقيقة  ذلك أن الإنسان حينما يفقد حياءه فإنه يتدرج من سيء إلى أسوإ، ويهبط من رذيلة إلى أرذل، ولا يزال يهوي حتى ينحدر إلى الدرك الأسفل. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على مراحل هذا السقوط الذي يبتدئ بضياع الحياء وينتهي بشر العواقب حيث قال : “إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا، نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه ربقة الإسلام”(ابن ماجة).

وهذا ترتيب دقيق في وصفه صلى الله عليه وسلم لأمراض النفوس وتتبعه لأطوارها، وكيف تسلم كل مرحلة خبيثة إلى أخرى أشد خبثا. فالمرء إذا مزق الحجاب عن وجهه، ولم يتهيب على عمله حسابا، ولم يخش في سلوكه لومة لائم مَدَّ يدَ الأذى للناس، وطغى على كل من يقع في سلطانه، وحينئذ يكون هذا الإنسان قد أفلت من قيود الدين وانخلع من ربقة الإسلام.

إن للحياء مواضع يستحب فيها. فالحياء في الكلام يتطلب من المسلم أن يطهر فمه من الفحش، وأن ينزه لسانه عن العيب، وأن يخجل من ذكر العورات، فإن من سوء الأدب أن تفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بوقعها وأثرها في نفس الغير بل وما يترتب عنذلك من إثم قال صلى الله عليه وسلم : ((الحياء من الإيمان والإيمان من الجنة والبذاءة من الجفاء، والجفاء في النار))(رواه أحمد).

إن الحياء ملاك الخير، وعنصر النبل في كل عمل يتخلله، قال صلى الله عليه وسلم : “ما كان الفحش في شيء إلا شانه، وما كان الحياء في شيء إلا زانه”(رواه الترمذي).

ومن حياء المرء أن يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم، وأن يؤتي كل ذي فضل فضله.

والحياء في أسمى مراتبه وأعلاها يكون من الله تعالى.

-أقسام الحياء :

ينقسم الحياء إلى نوعين : حياء ممدوح وحياء مذموم. فالممدوح مثل أن يترك القبيح حياء من الله، والمذموم كأن يترك المطالبة بحقه أو يترك السؤال عن أمور دينه.

وقد جاء في فتح الباري لابن حجر أن الحياء قسمان :

الأول : ما كان خلقا وجبلة غير مكتسب، وهو من أجل الأخلاق التي يمنحها الله للعبد ويجبله عليها، فهو بهذا المعنى فطرة في الإنسان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : “الحياء لا يأتي إلا بخير” لأنه يمنع صاحبه عن مزاولة المخالفة ومحاولة العصيان، ويحث على التخلق بمكارم الأخلاق، فهو من حقيقة الإيمان وثمرة من ثماره.

والثاني : الحياء المكتسب من معرفة الله تعالى، ومعرفة عظمته وقربه من عباده، واطلاعه عليهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، فهذا النوع من الحياء الجميل من أعلى خصال الإيمان، ودرجات التقوى والإحسان.

وقد يتولد الحياء من الله تعالى بسبب مطالعة نعمه، ورؤية التقصير في تركها، فإذا أسلب العبد الحياء المكتسب والغريزي، لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والإنغماس في المعاصي والرذائل، فيصير بهذه الأعمال السيئة كأنه لا إيمان له. وخلاصة الأمر، فإن هذا الحديث يستوعب كثيرا من أداب الإسلام ومناهج الفضيلة، فإن على المسلم تنزيه لسانه أن يخوض في باطل وبصره أن يرمق عورة أو ينظر شهوة وأذنه أن تسترق سراً، أو تستكشف خبئا. وعليه أن يفطم بطنه عن الحرام، ويقنعه بالطيب الميسور. ثم عليه أن يصرف أوقاته في مرضاة الله وإيثار ما لديه من ثواب. فلا تستخفه نزوات العيش ومتعه الخادعة.. فإن فعل ذلك مستشعرا مراقبة الله فقد استحيا من الله حق الحياء.

والحياءبهذا الشمول هو الدين كله، فإذا أُطْلِقَ على بعض الأعمال الحميدة، فهو جزء من الإيمان وأثر له كما هو الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم : ((… والحياء شعبة من الإيمان))

إن المرء بحضرة الناس الذين يجلهم ويحرص على استرضائهم، يضبط سلوكه ضبطا محكما، فيتكلم بقدر، ويتصرف بحذر. والمسلم الذي يعرف أنه لا يغيب عن الله أبدا، لأنه ماثل في حضرته ليلا ونهارا، ينبغي أن يكون تهيبه لجلال الله أعظم، وتأدبه بشرائعه أحكم.

إن اهتزاز الإنسان وتمعر وجهه في بعض المواقف دليل سمو كامن وطبع كريم و(الحياء خير كله)، أما اذا سقطت صبغة الحياء عن الوجه فقد آذنت الحياة الفضيلة بالضمور، وتهيأ الحطام الباقي أن يكون حطبا للنار، وذلك الذي يقال له : “إذا لم تستح فاصنع ما شئت”

- ما يستنبط من الحديث :

إن المتأمل في هذا النص الحديثي ليدرك أنه ينطوي على معالم وأحكام عظيمة وكثيرة نستنبط منه، منها ما يلي :

1- ترقب الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتوجيه والتربية في كل حين ولحظة قصد تقوية إيمانهم والرفع من أخلاقهم وتهذيب سلوكهم، وتحسين أعمالهم.

2- وجوب حفظ الحواس من كل ما يخل بحياء المسلم وإيمانه (فليحفظ الرأس وما وعى). وحفظها يتم بالإبتعاد عن المحرمات، مثل حفظ العين عن النظر إلى ما حرم الله من عورات النساء، فالنظرة سهم من سهام إبليس وهي زنى ايضا لقوله صلى الله عليه وسلم : (والعين تزني وزناها النظر…) ومثل حفظ اللسان من النميمة والغيبة، والنطق بالكلام البذئ، قال تعالى : {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} وحفظ الذوق من تذوق الحرام، وحفظ الأذنين من الإستماع إلى ما حرم الله تعالى من الكلام الفاحش والأغاني الماجنة، ومن التجسس على المسلمين وغير ذلك.

3- وجوب حفظ البطن، وذلك بالكف عن أكل المحرمات وأموال الناس بالباطل،فإن أكل الحرام مضر بالغير، مهلك للنفس، ومدخل للنار، قال صلى الله عليه وسلم : ((لا يدخل الجنة جسم نبت من سحت)) والسحت هوالحرام كالربا والغش في البيع والشراء، وسرقة ما يؤكل…

4- وجوب حفظ الفرج، وذلك من الوقوع في جريمة الزنا، وهتك أعراض النساء وتدنيسها، فحفظ الفرج من الفاحشة، دليل التقوى وصفة الإيمان، وحقيقة الحياء، والوقوع في الزنى هلاك للنفس وضرر بالمجتمع، وضياع للنسل، ومبشر بالفقر، والأمراض الفتاكة والخطيرة قال صلى الله عليه وسلم : ((بشر الزاني بالفقر ولو بعد حين)).

5- خير واعظ للإنسان أن يتذكر الموت وما بعده من حساب وعقاب يوم القيامة. وأن يتذكر ايضا القبر ونعيمه وجحيمه معا.

إن الإنسان بتذكره المصير المحتوم “الموت” يدرك أن الإنسانية إلى زوال وأن الحياة الدنيا ليست على شيء، وأن الآخرة هي دار القرار، فيعمل لها ليل نهار.

6- الرغبة في الآخرة والعمل لها من صفات الحياء وعلاماته، وهذه الرغبة هي التي تجعل الإنسان يزهد في الدنيا، ويقبل على الله تعالى بعزم وصدق وإخلاص.

7- شمولية الحياء لتعاليم الإسلام كلها ، ومكارم الأخالق جميعها.

8- حقيقة الحياء من الله عز وجل تقتضي الإلتزام الحق بكل ما جاء في هذا الحديث الشريف، من توجيهات تربوية، ومعاني خلقية، وأحكام شرعية.

9- وأخيراً فإن هذا النص الحديثي يعتبر قاعدة من قواعد الدين وأصوله العامة، ويمكن إجمالها في عبارة : (حقيقة الحياء تقتضي الحفاظ على مقاصد الشريعة ومكارمها)، وهذا واضح من خلال ما ورد في الحديث في تبيان معنى الحياء، من حفاظ على الرأس وما وعى ومنه العقل وهو أهم شيء يحويه رأس الإنسان، وكذا في الحفاظ على البطن وما حوى، ومن ذلك الحفاظ على المال بحيث يجب أن يكون حلالا، حتى يتغذى البطن بالحلال، وكذا حفظ الفرج وفيه معنى الدلالة على صيانة العرض والنسل، وفي كل هذه الأمور حفظٌ للدين والنفس معا. وبهذا فهو يجمل الأمر بوجوب الحفاظ على مقاصد الدين ومكارمه.

تلك كانت بعض أهم المعالم والأحكام التي يمكن استنباطها واستخلاصها من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث العظيم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>