ذ. محمد بن شنوف
عن أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((ما نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فاجْتَنِبوهُ، ومَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ واختْلاَفُهُمْ عَلَى أَنْبِيَّائِهْم))-رواه البخاري ومسلم-.
بعض تخريجات الحديث :
خرجه مسلم من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة كلاهما عن أبي هريرة. وخرجاه : (البخاري ومسلم) من رواية أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((دعوني ما تركتكم انما اهلك من كان قبلكم سؤالهم واختلافهم على انبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم)).
سبب ورود الحديث :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : “خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحُجُّوا، فقال رجلٌ : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا. فقال رسول الله صلى عليه وسلم : لو قُلْتُ : نعم لوجبتْ ولما استطعتم”. وأصل هذا الحديث في القرآن قوله تعالى : {يا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنَ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ…}-المائدة 101-.
شرح الحديث :
إن الاشكال الذي يطرحه هذا الحديث هو : كيف يمكن التوفيق بين ما ورد هنا في النهي عن كثرة السؤال وبين الأمر بالسؤال الذي أوجبه الله علينا في مواضع مختلفة من مثل قوله تعالى : {فاسْأَلُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون}- النحل/43 والأنبياء/7- وكيف يتأتى تحصيل العلم بغير سؤال العلماء والبحث في الظواهر الكونية، وقد سُئل حَبْر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : بماذا أُوتِيْتَ هذا العلم كلَّه؟ فقال: “بلِسَانِ سَؤُولٍ وقَلْبٍ عَقُولٍ”؟!.
والذي يبدو لأول وهلة من الإشكال هو أن السؤال منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم. ولكن ما هي معايير التمييز بين هذا وذاك؟ الواقع أن حدود التمييز بينهما إنما يقع بكيفيات مختلفة أذكر منها :
1- يحمد السؤال اذا كان للتفقه والزيادة في العلم ويذم اذا كان تعنتاً وتنطعاً(العلة).
2- يحمد اذا كان الجواب عنه يترتب عنه عمل فيه مصلحة شرعية للفرد والمجتمع ويذم اذا كان بقصد الترف الفكري فقط(الهدف).
3- يحمد فيما هو معقول المعنى ويذم فيما اختص الله بعلمه(الموضوع).
4- يحمد إذا كان لفهم الآيات وتدبرها ويذم اذا كان لاقتراحها وطلب الإتيان بها على وجه التحدي(الكيفية).
وقبل تفصيل القول في هذه الكيفيات أودُّ أن أشير الى أن قوله صلى الله عليه وسلم : ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم)) هو تبيان وتأكيد لما في قوله تعالى : {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}-الحشر/7- اي اجتنبوا ما نهاكم عنه من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بدون استثناء ولا تفاوت في الترك، وما أمركم به من الصلاة والزكاة والعبادات المتعلقة بالنوافل التي تقرب العبد من ربه، فافعلوا المستطاع وقدر الإمكان وما وَسِعَكُم الجُهْد. وإن في الاشتغال بامتثال الاوامر واجتناب النواهي ما يشغل بال السَّائِل فلا يبقى له مجال للمسألة.
وقولَه عليه الصلاة والسلام : ((فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرةُ مسائلهم، واختلافُهم على أنبيائهم)) أراد أن يبين من خلاله للسائلين ذريعةَ النهي عن السؤال لأنه قد يؤدي الى عصيان الانبياء والخروج عن طاعتهم كما هو الشأن بالنسبة لليهود والنصارى عندما كانوا يسألون انبياءهم الإتيان بالآيات فيستجاب لهم ثم لا يصدقونهم بعد ذلك فحق عليهم العذاب بعد أن اصبحوا بها كافرين. وهو إشارة ضمنية لما في القرآن من أن اليهود -مثلا- جادلوا موسى عليه السلام في أوصاف البقرة فبعد أن كانوا في حِلٍّ من أمرهم، إذْ لَوْ ذَبَحُوا أي بقرة لأجزأتهم، لكِنَّ هذا التعنت نقلهم من فرض الكفاية الى فرض العين وشددوا فشدد الله عليهم ويضاف إلى هذا التعنت والتنطع المقيت أنهم{سَأَلُوا موسى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}-النساء-153/ كما أن النصارى سألوا عيسى إنزال مائدة من السماء : {إِذْ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال : اتقوا الله إن كنتم مومنين! قالوا : نريد ان ناكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم ان قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا انزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين. قال الله أني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني اعذبه عذابا لا أعذبه أحداً من العالمين}-المائدة : 114، 117-
تفصيل القول في مسألة السؤال :
ترجم الامام الشاطبي في كتاب الموافقات للآية : {لاتسألوا عن اشياء….}والحديث (ما نهيتكم عنه…) في المقدمة الخامسة منْه القاعدة الأصولية التالية :
كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب(النية) وعمل الجوارح من حيث هومطلوب شرعاً-ج1/46-. واستدل لهذه القاعدة بقوله (والدليل على ذلك استقراء الشريعة فإنا قد رأينا الشارع يُعْرِض عما لا يفيد عملاً مكلفاً به( وهذه امثلة من هذا الاستقراء.
أولا : قوله تعالى : {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}-البقرة/189- وقع الجواب بما يتعلق به العمل إعراضاً عما قصده السائل من السؤال عن الهلال : لِمَ يَبْدُو في أول الشهر دقيقاً كالخيط ثم يمتلئ حتى يصير بدراً، ثم يعود الى حالته الاولى؟
ثانيا : السؤال عن الساعة : {يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟}-النازعات 42- قال : {فيم أنت من ذكراها} اي أن السؤال عن هذا سوال عما لا يعني إذ يكفي من علمها أنه لابد منها.
ثالثا : قوله تعالى : {ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي}-الاسراء /85- وان هذا مما لا يحتاج اليه في التكليف، ولذلك لم يجابوا عنه.
رابعاً : رُوى أن أصحابه صلى الله عليه وسلم مَلُّوا مَلَّةً (أصابهم سأم وضجر) فقالوا : يارسول الله حدثنا حديثا فأنزل : {الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني}-الزمر/23- وهو كالنص في الرد عليهم فيما سألوا. وأنه لا ينبغي السؤال إلا فيما يفيد في التعبد لله ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا حديثا فوق الحديث ودون القرآن فنزلت سورة يوسف.
الترخيص في السؤال للأعراب دون المهاجرين والأنصار لأن الإيمان رسخ في قلوبهم :
تشير كثير من الاحاديث في كتب الصحاح والسنن والمسانيد الى أنه وقع ترخيص للأعراب بعد ما نهي عنه الانصار والمهاجرون نذكر منها :
1- في صحيح مسلم عن النواس بن سمعان قال : “أقمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة الا المسألة كان أحدنا اذا هاجر لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم.
2- وفيه ايضا عن انس رضي الله عنه قال : “نُهينا ان نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا ان يجيء الرجلُ من اهل البادية فيسأله ونحن نسمع”.
3- عن ابي امامة قال : كان الله قد أنزل : “لا تسألوا…” قال فكنا قد كرهنا كثيراً من مسألته واتقينا ذلك حين انزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قال : فأتينا اعرابيا فرشوناه بُرْداً ثم قُلْنا له سَلْ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر حديثا.
4- وفي مسند البزار عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ما رأيت قوماً أخير من اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما سألوه الا عن اثنتي عشرة مسألة كُلُّها في القرآن : يسألونك عن الخمر والميسر…) الحديث. انظر هذه الاحاديث وغيرها في جامع العلوم والحكم ص : 78.
علة النهي عن السؤال :
واذا تساءلنا عن السر في نهيه صلى الله عليه وسلم عن كثرة الاسئلة مع ان طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة يجيبنا الامام الشاطبي على ذلك بقوله :
1- انه شغل عما يَعْني من أمور التكليف الذي طُوِّقَهُ المكلف بما لا يعني. اذ لا ينبني على ذلك فائدة لا في الدنيا ولا في الآخرة. فإن قيل : إن في علمها لذةً وفيه فائدة الدنيا؟!. فالجواب ان من شرطها (اللذة) شهادة الشرع لها بذلك وكم من فائدة ولذة يعدها الانسان كذلك وليست في أحكام الشرع إلا على الضد : كالزنى، وشرب الخمر، وسائر وجوه الفسق والمعاصي.
2- وإن عامة المشتغلين بالعلوم التي لا تتعلق بها ثمرة تكليفية، تدخل عليهم فيها الفتة والخروج عن الصراط المستقيم، ويثور بينهم الخلاف والنزاع المؤدي الى التقاطع ولم يكن أصل التفرق الا بهذا السبب.(انظر الموافقات ج1/4 -50،51 بتصرف)
المواضع التي يكره فيها السؤال :
كان عليه الصلاة والسلام يكره السؤال فيما لم ينزل فيه حكم، وقال : ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وَحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء رحمة بكم لا عن نسيان فلا تبحثوا عنها))-حديث حسن رواه الدارقطني وغيره- وقال : ((ان اعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم عليهم، فحرم عليهم من أجل مسألته)).
وبالجملة فان المواضع التي يذم فيها السؤال كثيرة نذكر منها :
1- السؤال عمَّا لا ينفع في الدين، او عما يسوء السائل جوابه كالسؤال عن الهلال أو : مَنْ أبي؟!
2- ان يسأل عن الحكم الذي هو من قبيل التعبدات التي لا يعقل لها معنى كـ : لماذا أمرت الحائض بقضاء الصوم دون الصلاة في رمضان؟!
3- السؤال عن المتشابهات {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه}-آل عمران/7-. سئل مالك عن الاستواء على العرش فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة.
4- سؤال التعنت والافحام وطلب الغلبة في الخصام، والقرآن ذَمَّ المراء في مثل هذا : {ومن الناس من يعجبك قوله…}-البقرة/204- وقال تعالى :{بَلْ هُمْ قَوْمٌ خصِمُون}-الزخرف/58-
5- ان يظهر من السؤال معارضة الكتاب والسنة بالرأي : سئل مالك عن حديث : نهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال، فقال : أما كثرة السؤال فلا أدري ما انتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وقال : “لا تسألوا…” فلا ادري أهو هذا أم السؤال في الاستعطاء؟
مما يستفاد من الحديث :
1- التزام ما شرع الله لعباده، والاتيان به على الوجه الذي شرعه، ومن المعلوم ان شروط قبول الاعمال هو الإخلاص والصواب والمقصود بالصواب الوقوف عند ماحدَّهُ الشارع.
2- أفاد كراهية التنطع في السؤال عمالم يقع، والتشدد في البحث عما سكت عنه الشارع لان السؤال عنه قد يفضي الى التكاليف الشاقة. وهذا كان زمن التشريع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3- أفاد ان التفقه في الدين، والسؤال للعلم إنما يحمد اذا كان للعمل والتقرب الى الله، لا للمراء والجدل. رُوي عن علي رضي الله عنه أنه ذكر فتنا تكون في آخر الزمن فقال عمر متى ذلك يا علي؟ فقال اذا تُفقِّه لغير الدين وتُعُلِّم لغير العمل، والتُمِسَتْ الدنيا بعمل الاخرة.
4- يؤخذ من الحديث ان النهي أشد من الامر، لان النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه والامر قيد بحسب الاستطاعة وان طاعة الرسول عربون صدق ودليل ايمان على حب الله ورسوله.
5- في قوله صلى الله عليه وسلم : ((اذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم…)) دليل على ان من عجز عن فعل المأمور به كله، وقدر على بعضه فانه يأتي بما امكن منه كالطهارة والصلاة وزكاة الفطر قال العلماء غير ان تبعيض الصيام والعتق لا يجوز.
6- التحذير من اقتفاء أثر اليهود والنصارى في التعنت مع الرسل والانبياء لان ذلك أوجب هلاكهم وألزمهم العذاب. والتحذير من ممالأتهم على الباطل الاإذا استجابوا الى كلمة سواء بيننا وبينهم الا نعبد الا الله.
7- افاد الحديث ان من اشتغل بكثرة توليد المسائل التي قد تقع وقد لا تقع وتكلف أجوبتها بمجرد الرأي خُشي عليه ان يكون مخالفا لهذا الحديث مرتكبا لنهيه تاركاً لامره.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هدتينا وهب لنا من لدنك رحمة إنك انت الوهاب.