نظرات حول المنهج القرآني في التغيير


محمد أبو أنس

لعل القائم على أحوال الأمة العربية الإسلامية خاصة والعالمين عامة، يجعل من المشروع الاستنتاج بأن هاته الأحوال في حاجة إلى تغيير جذري، الشيء الذي جعل علماء الأمة ومفكريها يهتمون بعملية التغيير ويحاولون الإسهام فيها بشكل أو بآخر.

كما أن الناظر إلى الحركات التغييرية التي قامت منذ عهد ابن تيمية ومن قبله إلى يومنا هذا، سيلاحظ توحدها حول منهج الوحي الإلهي، فتجد هذه الحركات أشادت بقوله تعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}-الرعد : 11- وهم بذلك يخالفون النظرة الشائعة حول التاريخ والتي تقيده بسببية مرحلية، هذه النظرة التي تستبعد إمكانية تطويع التاريخ لمبدإ التغيير. والواقع أن الأشياء تسير وفقا لسببية مرحلية، لكن إن تركت لشأنها.

لذلك نجد الآية الكريمة السابقة تربط مبدأ تطويع التاريخ لمبدإ التغيير بما في ذلك النفوس (أو بعالم الأفكار كما عبر عن ذلك مالك بن نبي رحمه الله) فتصبح بذلك كل المراحل قابلة للتغيير. لأن الحتمية المرتبطة بها أصبحت اختيارا تقرر في أعماق النفوس.

لا أريد سرد المناهج التغييرية للحركات السابقة والمعاصرة، بل أريد أن يُقرأ القرآن كله على منهاج قراءة هذه الآية الكريمة، وبذلك نستطيع معرفة المنهج القرآني في عملية التغيير، مادام القرآن نفسه يوضح هذا في غير موضع واحد، يقول عز وجل {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}(سورة فصلت 52)، {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}(العنكبوت 43).

وعندما نقول المنهج القرآني في التغيير، لا نقصد بذلك هذه الآية فحسب (سورة الرعد : 11) بل نقصد بالضرورة قصص الأنبياء والرسل كل مع قومه، والسبيل الذي اتبعه كل واحد مع قومه ليحدث التغيير (أي الإصلاح). في تفسير ابن كثير يقول : قال ابن أبي حاتم : “أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك : إنه ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون”، ثم قال: إن تصديق ذلك في كتاب الله {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}-أخرجه ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي موقوفا- أو في تفسيره لقوله تعالى : {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم}-الأنفال : 53- يقول : من تمام عدله تعالى وقسطه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على قوم إلا بارتكاب ذنب أو معصية كقوله تعالى : {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. يتبين انطلاقا من تفسير هذه الآيات أن التغيير يكون سلبيا. وهذا طبيعي مادامت مرتبطة بما قبلها وما بعدها من الآيات. يقول تعالى : {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال}(الرعد : 11 – 12) ويقول أيضا : {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وأن الله سميع عليم كدأب آل فرعون والذين من قبلهم}(الأنفال : 53) يتضح إذن أن هناك اختلافا فيما إذا كان التغيير المقصود في القرآن سلبي أم إيجابي لكن هذا لا ينفي أن هذا التغيير مرتبط بما في النفوس. فالنفس البشرية  ابتداءاً لها القابلية للفجور والتقوى، إذ يقول تعالى : {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها}(الشمس : 5-7). فالتسوية وفجور النفس وتقواها كلها منسوبة إليه عز وجل، لكنه تعالى بالمقابل قال : {قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها} فنسب بذلك التزكية والتدسية للعبد، وحين قال عز وجل : {حتى يغيروا ما بأنفسهم} فهذا يفيد إمكانية وضع أفكار في النفس ابتداءاً لكن الله جعل الإنسان مسؤولا عن تبديل هذه الأفكار ووضع أفكار أخرى محلها.

لذلك فالمهم في التغيير هو الذي يخص القوم (أو المجتمع)، ألا وهو تغيير ما بالنفس، وبهذا نكون بصدد مواجهة مشكلة الإنسان، مشكلة مستقبله وتاريخه، مشكلة تخلفه ورقيه.

إضافة إلى هذا فإن سنة التغيير هي سنة مجتمع ولا تخص فردا واحداً، فتغيير حال الفرد لايلزم تغير حال المجتمع أوالأمة، إلا أن يكون هؤلاء الأفراد ملوكاً أو مترفين، بدليل قوله تعالى : {إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، وكذلك يفعلون}.

وقوله عز من قائل : {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فدمرناها تدميراً}.

وبالمقابل فإن سنة التغيير دنيوية لا أخروية، فهي تقصد المجتمع بأسره وتلقي المسؤولية عليه وليس على الفرد، الذي يحاسب في الآخرة لوحده. فالسنة إذن ينبغي أن تكون في حدود المجتمع وأنها أيضا سنة دنيوية.

وحتى نحافظ على عالم النفوس، وجب الاتعاظ بسنن الذين خلوا من قبل، يقول عزوجل {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}. وقد تنبه إلى هذا أيضا ابن خلدون حيث يقول “ومن الغلط الخفي الفهول عن تبديل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء شديد الخفاء” قال عز من قائل {سنة الله التي قد خلت في عباده}-غافر : 85- بل وعلينا أيضا أن ننظر إلى المستقبل على ضوء القرآن، فلا يزيغ عنا إلا هالك، قال عز وجل : {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}-الصف : 5- مقتدين في ذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي انفرد بنظر اجتماعي تاريخي سنني إلى المشكلة الاجتماعية : فكان بذلك كما يقول مالك بن نبي : يقرأ التاريخ قبل أن يقع، ويحذر من الوقوع فيه على أساس أن الأمر على نظام وسنن.

أنتقل إلى نقطة أخرى مهمة أيضا، ألا وهي دور العقل في إحداث التغيير. مما لاشك فيه أن العقل والسنن يشغلان مكانا بارزاً في القرآن، حيث نجد الحديث عنهما في غيرما موضع واحد. وطالما عانت الأمة ولازالت تعاني من مشكلة العقل الذي طالما يغتال، فلا يؤدي وظيفته في تسخير ما في الكون، ولعل المصدر الأساسي في تعطيل العقل : العقيدة العبثية في الوجود والكون، قال تعالى : {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين}-الدخان : 38- التي تنشأ عن عدة آفات يحددها القرآن الكريم في :

1- الغفلة : قال تعالى : {إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون}.

2- آفة الإعراض عن آيات الله وسننه : غياب رؤية العلاقة بين طاقة الفكر وسنن الكون التي يسميها التعبير القرآني : التسخير.

3- آفة التكذيب وافتراء الكذب : يقول عز وجل {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم}-الأنعام : 44- علينا أن ننظر إلى التكذيب على اعتبار أن له سننا متعلقة بالنفس، فالتكذيب يكون مطابقا لما في النفس من أفكار. فما المصائب التي تنزل على المسلمين اليوم إلا لأنهم كذبوا بكثير من آيات الله، فكذلك آيات الله في الأنفس والآفاق معرضة للتكذيب، ومشكلتنا اليوم أعوص إذ أننا لم نعد نتعامل لا مع كتاب الله المسطور (القرآن) ولا مع كتابه المنشور (الكون). فالمشكلة أساسا هي في جمود العقل والفكر، لا في غياب التنظيم والتخطيط.

4- آفة اتباع الهوى، واتباع الآباء، وقد فصل فيها  القرآن في غير ما مرة، لقد اهتم الشاعر محمد إقبال بالنفس الإنسانية إلى حد أنه خصص قصائده لهذا الغرض بل عنون إحدى قصائده كالتالي “قصة في معنى أن مسألة نفي الذات من مخترعات الأمم المغلوبة لتضعف الأمم الغالبة بهذه الطريقة الخفية”.

على اعتبار أن فلسفة إقبال تمحورت أساسا حول نفي الذات وإثباتها.

أخيرا فإنه إذا قمنا بجرد لطرق التغيير التي ذكرها القرآن والتي زاولها الأنبياء، فإننا نجد أن هذه الطرق تختلف من نبي إلى آخر حسب استجابة القوم لدعوة نبيهم، حيث نجد أن كلا من إبراهيم ولوطا عليهما السلام، كان التغير من داخل قوميهما مستبعدا، ولا مجال لإحداث التغيير فيهم بالقوة، فكان المطلوب منهم هو التبليغ فحسب من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

في حين نجد أن أسلوب موسى تميز بحوار فرعون وكذا مساجلة سحرته لتخليص بني إسرائيل من سيطرته، لكن هذا الحوار لم يؤت أكله فاضطر إلى الخروج ببني إسرائيل خلسة تفاديا للمواجهة، لأنها كانت تعني الهلاك لهم.

أما أسلوب عيسى عليه السلام فكان استراتيجيا، بحيث حاول إرساء القواعد للدعوة الرسالية، وكسب قاعدة شعبية لها وبناء نواة من الحواريين لحمل الرسالة والانتشار بها.

فالمطلوب إذن أن يكون حاملو مشروع التغيير أصحاب عقل سليم وفكر سليم في فهم سنن التغيير بما في ذلك تقويم حجم العقل والفكر والجوانب المعنوية في التغيير، ويحتاج إلى فهم الواقع بكل معطياته على المستوى الإقليمي القطري والدولي، وما يحكمه من موازين قوى وما يحتاج إليه من شروط من أجل النجاح في التغيير.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>