«أرَايْتَ الذي يَكذِّبُ بالدِّين ü فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليَتِيمَ ü ولاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ المِسْكِينِ ü فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّّين ü الذينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ ü الذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ ويَمْنَعُونَ المَاعُونَ ü»(سورة الماعون) 1- في رحاب الدلالات اللغوية والاصطلاحية : أرايت؟ : الاستفهام هنا للتعجيب من المكذِّب بيوم الدين، والإنكار عليه، وتقريعه وتوبيخه على التكذيب بغير دليل ولا بينة. يكذب بالدين : ينكر وجود اليوم الآخر الذي يُدَان فيه الإنسان، ويجاسب على ما قدم من أعمالٍ في الدنيا، فَيُجازى عليها ثوابا أو عقابا يَدُعُّ اليتيم : يَدْفَعُهُ دفْعا عنيفا، ويرده رَدّاً قبيحاً بزجر وخشونة، فهو لم يَتَصَدَّقْ عليه حتى بالكلمة الطيّبة التي تجْبُر الخاطر ولا يحضُّ على طعام المسكين : لا يَحُثُّ، ولا يحرِّض على إطْعام المسكين، وهذا من أقْبح الذمِّ للمكذِّب بالدين، إذْ لَمْ يكتفِ بالبُخل بإطعام المسكين من ماله، بَلْ يبْخل حتي بالكلام الذي يُرَغِّب غيره في إطعام المسكين. فَوْيْلٌ : التهديد بوقوع أفْظَعِ العذاب وأشَقِّهِ على المكذب باليوم الآخر. عن صلاتهم ساهون : غافِلُون وذَاهِلُون عن صلاتهم، لا يُبَالُون بها، ولا يعرفون قيمتها وأهميتها، ولذلك فهم إن أخَّروها عن وقتها أو صَلَّوْها مع الناس رياء لا يَرْجُون ثواباً عليها، وإن تركوها بالمرة جحوداً وعناداً وكفرا والحاد لا يخافون عليها عقابا الذين هم يراءون : الذين يُصَلون أمام الناس ليقولوا ويشهدوا لهم بالطاعة والصلاة، وهم في الحقيقة مجرد خادعين للناس ليعُدّوا من المسلمين، وهم في الحقيقة من المنافقين الذين يُبْطنون الكفر، ويتآمرون على المسلمين. ويمنعون الماعون : الماعون هوما يَتَداولُهُ النَّاس فيما بينهم على سبيل الاستعارة، كالفأس، والقلم والصَّيْنيَّة، والبرَّاد، والطَّنْجَرَة... حيث ينتفعون بهذه الأدوات ثم يردونها إلى صاحبها 2- في رحاب التفسير : أ- المناسبة : لما ذكر الله تعالى في سورة "قريش" إنعامه على قريش بنعمتي الإطعام من الجوع، والأمن من الخوف، ثم أمرهم بأن يعبدوا ربَّ البيت المنعم عليهم بالنعمتين العظيمتين، ناسب أن يذكُرَ الله سبحانه في مَعْرِض الذَّمِّ والتَّقْبِيحِ صفاتِ المكذِّب بيوم الدّين، الذي لا يَعْرف ما عليه لله تعالى من حقوق وواجبات، وما عليه لِخلْق الله تعالى من حقوق وواجبات. ب- أغراض السورة : * التعجيب والسخرية من الذي يتجرَّأُ على الله تعالى فينكر قدرته على بعث الإنسان بعد الممات، ومحاسبته على أفعاله، يُكذِّب بيوم الدين بدون دليل لا من العقل ولا من النقل. * تِبيَانُ صفات المكذب بيوم الدين، وسلوكِهِ مع ربه ومع خَلْقه * تبيان الغرور الذي يتصف به الملحدون، حيث يظنون أنهم ناجون من غضب الله وعذابه ج- التفسير : أعرفت يا محمد الذي يكذب بيوم المعاد والجزاء؟؟ وأعرفتم أنتم يا أمة محمد -بالتبع له صلى الله عليه وسلم- حقيقة الذي يُكذب بالدّين، وشاهدتُم على مَدَارِ العُصُور الآثار والصفاتِ التي أحدثَهَا التكذيبُ باليوم الآخر في نفس المُكَذِّب الملْحِد المُعانِدِ؟؟ إن لم تكونوا عرفتموه حق المعرفة، فها هي أعماله وأوصافه التي لا تدع مجالا للشك في تمْييزِ شَخْصِيته وسلوكه بين الناس. إنه : 1) الذي لا يملك في قلبه ذرة من عطف على الأيتام الضعاف، فهو يحتقرهم ويدفعهم بخشونة وقسوة عن ساحته وبابه دَفْعاً مُؤْلِما يجرح شعورهم، ويُبْكيهم ويهينهم، «فَذَلِكَ الذِي يَدُعُّ اليَتِيمَ» يأكُلُ مالَه إذا كان تحت رعايته، ويدفعه عن حقه في ماله الذي تركه له أبوه إِرْثاً، أو يَدْفَعُهُ عن حقه في مال الغني بمُقْتَضَى التضامن والتكافل الإنسانيين. 2) وهو الذي لا يكتفي بقهر اليتيم وإضاعة حقه، بل وصلت به الدناءة إلى حدِّ أنه لا يشجِّعُ علي الإحسان لِلْمِسْكِين بسَدِّ جَوْعَتِهِ، وكفاية حاجَتِهِ، فهو لا يعمل الخير ولا يشجع عليه «ولا يَحُضُّ علَى طَعَامِ المِسْكِينِ» 3) وهو الذي لا يعرف حق الله من العبادة والشكر، ولذلك فهو غَافِلٌ عن صلاتِهِ التي من شأنها أن تربطَهُ برَبِّه، فلا يُصِلِّيهَا نِهَائِيّاً، أو يصَليها في غير أوقاتها التي شرَعَها الله تعالي بها، أو إذا صلاها ولو في وقتها مع الناس صلاها غير متضرع ولا خاشع، ولا مُبَالٍ بثوابها، لأن قلبه مشغول بالدنيا «الذِينَ هُمْ عن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ». 4) وهو الذي إذا رأى الناسَ أحْسَنَ صَلاتَهُ وأتى بها على هيأة حَسنَةٍ ليخْدَعَ المغترين بالمظاهر، فإذا اخْتَلَى بنفسه لم يحدِّثْ نَفْسَهُ بالصلاة، وكذلك يتصدق أمام الناس ليقال إنه كريم، أو يتزعَّمُ الدعَوَاتِ للمشاريع الخيرية ليُثْنِيَ الناس عليه، وبالجملة فهو لا يعْمَلُ أو يقول خيراً لوجه الله تعالى، وإنمآ يضع في اعْتِباره النَّاس، أما الله تعالى فغائبٌ عن قلبه أثناء ممارسة العمل أو القول «والذينَ هُمْ يُراءُونَ» يعملون ليراهم الناس. 5) وهو الذي بلغ به البُخْلُ والشُّحَّ إلى درجة أنه لا ينفَعُ غيره من الأقارب والجيران والمحتاجين حتى بالأواني، والآلات التي لا خَسَارَة فيها لصَاحبها إذا أعارَهَا لغيره لينتفع بها ثم يَرُدَّها إليه سالمة، كالفأس والمِطْرَقة، والحبْل والسّكّين، والقصْعَة... وغير ذلك مما لا يَسْتَغْني أحد عن الاحتياج إليه واستعارته في مختلف المناسبات ثمَّ يَرُدَّه إلى صاحبه سالما «ويَمْنَعُونَ المَاعونَ» وهذا غايةُ اللُّؤْمِ وانعدام المُرُوءَةِ، وغاية الجُحُودِ لفضل الله تعالى، فهؤلاء زيادة على أنهم لم يحسنوا عبادة ربهم، لم يحْسِنُوا إلى خلْقِ الله تعالى ولو بإعارة ما يحتاجون إليه بدون رُزْءٍ وخسَارة. هذه هي بعض الأوصاف البارزة لمن لا يومن بالبعث والحساب، وبهذا يُعْرف ويُعْلَمُ أن الإيمان باليوم الآخر وما فيه من جزاء هو الوازِعُ الحقُّ الذي يغرسُ في النفس حُبَّ الإقبال على الأعمال الصالحة، والبعدِ عن الفواحش والمنكرات، حتى يصير ذلك خُلُقا للإنسان يأتيه بدون تكلُّف أو تصنُّع، إذا رُبِّيَ عليه تربية إيمانية. 3- مما يستفاد من السورة : أ- الإيمان باليوم الآخر الذي يقدم فيه الإنسان الحساب على عمله، هو الحجر الأساسي في صلاح الإنسان، وإصلاح أعماله، ولأن ذلك هو عَيْنُ العدل، إذ لا يُعْقَلُ نهائيا أن يعيش الإنسان عبثا لا مراقبة عليه من خَالِقِهِ، ولا تسْجيل لأعماله، ولا تقديم للحساب الدقيق أمام من لا تخفى عليه خافية، ولذلك نجد القرآن الكريم يُذَكِّرُ بهذه الحقيقة بعد كل تشريع سواء كان أمراً أو نهيا، لأن الخوف من الحساب غداً هو الضمان الحقيقي للحرص على التطبيق العملي للأوامر الربانية. ب- كان اليتيم يعيش مقهوراً محروما من حقوقه الأسرية، والمالية، والاجتماعية، والتربوية، نظراً لقساوة القلوب الجاهلية التي لا تعرف الله تعالى، ولذلك نجد الله تعالى جَرَّدَ حَمَلاَتٍ قوية في السور المكية ضد غلاظ الأكباد، وفي المقابل نجد أن الله تعالى أنزل في حقه تشريعاً متكاملا، فطالب بالإحسان إليه نفسيًّا، وتربويا، واجتماعيا، وتعليمه وتأديبه، وأعطاه حقه في أموال الأغنياء والغنائم والزكوات والصدقات، ونهى عن التعدي على ماله «وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالتِي هِيَ أحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أشُدَّهُ»-سورة الأنعام- كما وعد الله تعالى بالثواب الجزيل لكل من كفل اليتيم وأحسن إليه، وهذه العناية باليتيم في الإسلام جاءت من كون اليتيم ضعيفا بوضعه الاجتماعي، يسهل التعدي عليه، والتفريط في حقوقه، لأنه لا يُرْجَى مِنه عِوَضٌ يقدمه للمحسن إليه، وَلاَ يُخاف منه لأنه لا يقدر علي حماية نفسه، وهذا يدل على أن الإسلام جاء بتغيير الموازين الجاهلية التي كانت تحسن للقوى مخافة بطشه أو رجاء نفعه. فطالب بالإحسان إلى الضعفاء والمساكين رجاء الخير من الله تعالى ومخافة عقوبته في اليوم الآخر وبهذا المنهج استطاع الإسلام أن يخرج للناس مجتمعا فاضلا متكافلا تكافلا ماديا ومعنويا في السراء والضراء، وسَيَسْتَطِيعُ تحقيق هذا المجتمع مرة أخرى إذا تحقق الإيمان باليوم الآخر. ح- الذي يترك الصلاة نهائيا يُعْتَبَر كافراً، والذي يؤَخِّرها عن وقتها تهاوناً بها، أو يؤديها وهو غافلٌ تمام الغفلة عنها، يُعْتبر من المنافقين، أما الذي يترك الصلاة سِرّاً ويصلي مع الناس وربما بدون وضوء ولا تيمّمٍ فذلك المنافق نفاقاً أكبر، لأنه عند الله يعتبر كافراً وإن طُولب من المسلمين أن يعاملوه على حسب الظاهر لا على حسب الباطن. د- المُرائي هو الذي يتظاهر بالصلاح والطاعة لله تعالى ليُحَقِّق أغراضاً دنيوية، وهذا لا يتقبَّلُ اللُه تعالى منه أعمَالَهُ، ولا يُعتبر المسلم مُرَائِياً بِإِظْهَارهِ الأعمال الصالحة المفروضة، كالصلاة، والزكاة، والحج، فهذه تؤدي أمام الناس، لأنها أركان الإسلام، وأعلامه وشعائر الدين يُؤْجَرُ الإنسان على أدائها أمام الناس كالصلاة المفروضة في الجماعة وبالمساجد... إلى غير ذلك، فهذه الأشياء لا مراءاة فيها إذا توفر الإخلاص فيها. هـ- منع الماعون عند أكثر المفسرين هو عدم إعطاء العارية، والعارية هي «تَمْلِيكُ منفعَةٍ مُوَقَّتَةٍ بغَيْرِ عِوَضٍ» لأن تمليك المنفعة بِعَوَض يعْتَبرُ كراء وإجارة، وتَمْلِيكَ الذات بعوض يُعتبر بيعاً، وتمليك الذات بدون عوض يُعتبر هديةً، أو هبة، أو صدقةً... ولهذا كله أحكام خاصة في أبواب الفقه. أما العارية فتَعْتريها الأحكام التالية : 1) تكون واجبةً للضَّرورة، مثل تقديم حَبْلٍ لإنقاد غريق، ومثل تقْديم سيارة لنقل جريح أو مريضٍ مرضا خطيراً للمستشفى... 2) وتكون حَرَاما إذا كانت لمعصية مثل تقديم سِكِّين للقتل بها، أو تقديم حَبْل للانتحار، أو تقديم سيارة لنقل الخمر أو الحشيش 3) وتكون مستحبة في غير الحالتين السابقتين لأنها من قبيل التطوعات والمروءات التي يثاب عليها صاحبها. 4) للحاكم والمسؤول أن يتدخل عند الضرورة لإلزام من امتنع عن الإعارة بالإعارة، وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، «روى مالك عن عمر بن الخطاب أن الضَّحَاك بن قَيْس ساق خَليحا له -مجرى ماء- من العَريضِ -اسم لمكان- فأراد انْ يَمُرَّ في أرْضِ مَحَمَّدِ بن مَسْلمَة، فأبَى محمد، فقال له الضَّحَّاكُ : أنتَ تَمَنَعُنِي وهو لَكَ مَنْفَعَةٍ تَسْقي منه، أولا وآخِراً، ولا يَضُرُّك؟؟! فأبى محمدٌ فَكَلَّمَ فيه الضحَّاك عمر بن الخطاب فَدَعَا أميرُ المومنين محمدَ بْنَ مسلمة، وأمرَهُ أن يُخَلِّي سَبِيلَهُ، فقال محمدٌ : لاَ فقال عمر : لا تَمْنَعْ أخَاكَ ما ينْفَعُه ولا يَضُرُّك، فقال محمد : لا فقال عُمَر : والله لَيَمُرَّنَّ به وَلَوْ على بَطْنِكَ، فأمرَهُ عمر أنْ يَمُرَّ به. ففَعَلَ الضَّحَّاك»-سبل السلام 3/886 وغيره- 5) ويضْمَن المستعير ما أخذه إذا أتْلَفَ ما اسْتَعَاره أو ضَيَّعَهُ عَنْ تَفْرِيطٍ في حَقِّ أخيه الذي سَاعَدَهُ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم «عَلَى اليَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ»-رواه الخمسة-.