مع سنة رسول الله هل جزاء الإحسان إلا الإحسان 3


القضية السابعة : ترتيب الجزاء على الأعمال لا على الانساب :
ان مزية الدين الاسلامي هو أنه لا يحابي أحداً وأن معيار التفاضل فيما بين افراده ليس قائما على اللون أو الجنس أو اللغة أو القرب من رسول الله صلي الله عليه وسلم وانما هو قائم على التفاوت في درجات البر ومراقي التقوى والإيمان والعمل الصالح : «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(الحجرات : 13) ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : «ومنْ أبْطأ به عمله لم يسرع به نسبه» أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد الدرجات العلى في الجنة : «ولكُلٍّ درجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ومَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عمَّا يَعْمَلُونَ»(الانعام : 132) وان الله يرتب الجزاء على الاعمال لا على الانساب : «فإذا نُفِخَ في الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بينَهُمْ يَوْمَئِذٍ ولا يَتَسَاءلُونَ»(المومنون 101) ولذلك أمر الله بالمسارعة إلى فعل الخيرات لنيل المغفرة والرضوان من الله عز وجل : «سَارِعوا إلى مغفرة من رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ والأَرْضُ أُعِدَّتْ للمُتَقِينَ الذِينَ يُنْفِقُونَ في السَّرَاءِ والضَّرَّاءِ والكَاظِمِينَ الغَيْظَ والعَافِينَ عن النَّاس واللهُ يحِبُ المحْسِنين»(آل عمران 133) ولازال رسول الله صلى الله عليه وسلم يثبٍّت هذا المعنى في الاذهان لمحو أثر العنصرية والمحسوبية وتحقيق مبدإ المساواة في الحقوق والواجبات، فلا يَسْلمُ من إقامة الحد عليه شريفٌ لشرف نسبه، ولا تُنتهك حُرمة وضيع لإنحطاط نسبه : «عن عائشة رضي الله عنها قالت كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجْحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقَطْعِ يدها فآتى أهلُها أُسَامةَ بن زيد فَكَلَّمُوهُ فكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا أُسامةُ لا أَراكَ تَشْفَعُ في حدٍّ من حدود الله عز وجل ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا فقال : "إنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِأَنَّهُ إذَا سَرَقَ فيهم الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعِيفُ قَطعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمةَ بنتَ مُحمدٍ لقطعتُ يَدَهَا، فَقَطَعَ يَدَ المَخْزُومُيَّةِ»وراه أحمد ومسلم والنسائي. 
والذي ينظر إلى واقعنا الاجتماعي يجد أن المآسي الكبرى التي يَتَوَلَّدُ عنها الانحراف عن السلوك القويم انما ترجع بالدرجة الاولى إلى تطبيق القانون على الضعيف مقابل الصفح والتجاوز عن مظالم الاقوياء الذين لا يطَالُهُمْ العقاب لأسباب قد تكون مادية أو معنوية أو سياسية... لاننا نعيش عصر «الفيتو»-أي حق الإعتراض والحماية- الذي يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء "فالفيتو" مطبق على مستوى الامم والشعوب وعلى مستوى الافراد والجماعات، ولا ينال مغفرتَه وحمايتَه حقيرٌ ولا وضيعٌ ولا سفلة القوم، ولكن ينالُها [السيِّد والشريف وعِلِّيَّةُ القوم] لما لهم من حصانة تحول دون وصول سيف العدالة إلى رقابهم.
فما أحوج أمتنا إلى إعادة القراءة الحية في مبادئ الإسلام، ومبادئ النظُم المهيمنة على البشرية بدون حق، وإجراء موازنة دقيقة بين غَث المبادئ وسمينها، حتي لاتبقى منبهرة بسيف المعز وذهبه، مخدوعة بأموال صناديق النقد والبنك الدوليين، وشرعية الغالبين في النظام الدولي الجديد، فالحق أحق أن يتبع، ولله ملك السماوات والأرض ومابينهما.
بعض ما يستفاذ من الحديث : 
أ- في المجال الأخلاقي والتربوي : 
- الرحمة والتراحم : يشير الحديث إلى وجوب التخفيف من معاناة الإنسان عند ما تنزل به ضائقة مادية أو معنوية فتجعله في حرج وضيق، والتخفيف انما يكون بدافع الرحمة والتراحم، والشعور بألم المحتاجين، والتعاطف والتضامن مع المعذبين لانقاذهم من العذاب. والدين الإسلامي يؤصل هذا الشعور بين الناس حباً في الله عز وجل وطمعا في نيل مرضاته. وكثيراً مايُوهِمُ الغَرْبُ الكافر الحاقد على البشرية بأنه يخفض جناح الذل من الرحمة بدَعْمِ وتَحْصِينِ منظماتٍ عالمية لمحُِبّي الكلاب، وأصدقاء الحيوانات الأليفة، فيفتح [بيمارستانات] لتعهُّدِ الكلاب المريضة قَصْدَ علاجها وتزيينها وتعطيرها، في الوقت الذي يَحْفِرُ مَقَابِرَ عريضةً، ويشُقُّ أخاديد عميقة تهوي فيها أقوام من البشر. فالكلاب المُكَلَّبَة أهمُّ وأعظمُ في قلوب عُبَّاد الصليب من قُطْر اسلامي ضخم تَعْدُو عليه حُثالَةٌ لئىمة، فتقتُل شيوخه وترمِّلُ نساءه، وتبيح حياءَهُنَّ في فُجور، وتتاجر بأعراضهن في تَوَقُّحٍ، وتتخذ من جثثهن إناء تَلَغُ فيه الكلاب دون استحياء، فأين هي الرحمة التي يزعم من يفتك بالإنسان، ويُرَائِي في حدبه وعطفه على الحيوان؟!
ب- في المجال العقدي : 
في الحديث دليل على أن القُرب في الأنساب لاينفع مع البُعد عن العمل الصالح الخالص، فليس بين الله وعباده نَسَبٌ إلا التقوى. روى مسلم من حديث أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية : «وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ» دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا فَعَمَّ وخَصَّ فقال : «يابني كعب بن لُؤَى انقذوا أنفسكم من النار، يابني مرة بن كعب انقذوا أنفسكم من النار، يابني هاشم انقذوا أنفسكم من النار، يابني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يافاطمة انقذي نفسك من النار، فإني لاأملك لكم من الله شيئاً غير أن لكم رحماً سَأَبُلُّهَا ببَلالها»[أي أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئا]. 
فالواجب علينا أن نُقَابِلَ اللهَ بما قدمت أيدينا من عمل، ولانَغْتَرَّ بما نملك اليوم من جاه وحسب ونسب... فإنها لاتدفع عنا شيئا من عقاب الله.
لعمرك ما الإنسانُ إلا بدِينه      
فلا تَتْرُك التقوى اتكالاً على النَّسَبِ
لقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارسٍ    
وقد وضَعَ الشِّرْكُ النَّسِيبَ أَبَا لَهَبْ
ج- في المجال التعبدي : 
ü من أنواع البر التي ذكرها الحديث مايكون نفعه متَعدٍّياً كالتنفيس والتيسير وقضاء حوائج الناس ونشر العلم في المتعلمين، ومدارسة كتاب الله... ومايكون قاصِرَ النفع على صاحبه فقط كالتسبيح وذكر الله والإكثار من نوافل الطاعات... والذي هو مقررٌ أَنَّ الطاعة المتعدية أفضلُ أنواع الطاعات. فيُقَدّر الثواب والجزاء على الأعمال بمقدار حصول الإنتفاع لأَكْبَرِ عدد من الناس. روى البخاري ومسلم من حديث علي : «لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِداً خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَم»، فكيف بمن هدى الله به أفراداً وجماعات يُؤْجَرُ كلما أُجِرُوا؟ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للمفطرين القائمين على قضاء حوائج الصائمين «ذَهَبَ المُفْطِرُونَ بِالأَجْرِ» فلْنَضَعْ أنفُسَنَا في خدمة الناس، وقضاء حوائجهم مع اخلاص العمل لله، واحتساب الأجر على رب العالمين.
ü العبادات في الإسلام لاتقتصر على : الصلاة والصوم والزكاة والحج وإنما تحصل بكل مايحصل به النفع والانتفاع وبهذا المعنى نفهم أن جلوس المؤمن إلى حِلَقِ الذكر لتلاوة كتاب الله وتدبر آياته ومدارسة أحكامه والإشتغال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو جُلُوسٌ في مِحْرَابِ التعبد مادام يهدف بعمله هذا التفقُّهَ في الدين ليزيده تقرباً من الله. وأي مجالس أعظم من المجالس التي تشهدها الملائكة المقربون! وتغشاها رحمة الله! وتأتيها السكينة! ويُرفع ذكر جلاًّسها في الملأ الأعلى! وقارن هذه بمجالس السفهاء التي يكثر فيها اللغو والجهر بالسوء من القول والعمل من غيبة ونميمة ونيْلِ من أعراض الناس، وقتلٍ للوقت في لعب الورق والقمار، ومعاقرة الخمر، فشتان بين مجلس ينهض منه المسلم مغفوراً له، وبين مجلس ينهض منه الرجل مُثَْقلاً بأوزاره وأوزار من سَلَّطَ عليهم لسَانَه وعيْنَه وسمعه... يَنُوءُ بِكَلْكَلٍ من الآثام  «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُم كَامِلةً يَوْمَ القِيَّامَةِ ومِنَْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»-النحل : 25-. 
ألا فلنتق الله في أنفسنا ونجعل من مجالسنا مجالس للتناصح والإسترشاد والتماس الهداية «يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكْمْ تَفَسَّحُوا فِي المَجْلِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ واللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»-المجادلة : 11-.
د- في المجال الإجتماعي : 
ü يجب إقامة العدل بين الناس، لافرق في ذلك بين شريف ووضيع، وغني وفقير، مومن وكافر، فالعدل حق الناس جميعا «يَاأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاء بالقِسْطِ ولاَيَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ علَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَب للتَّقْوَى»-المائدة- وماأروع قول أبي بكر رضي الله عنه «القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له».
وإقامة العدل ليست محصورة في التقاضي والمحاكم، ولكنها عامة وشاملة لكل الميادين، في الامتحانات المدرسية والمباريات التوظيفية، والترشيحات لتولي المسؤوليات، بل وحتى في توزيع الاهتمام بالأسرة من زوجات، وأولاد، وبنات.
ü وإقامة العدل بين الناس تستوجب إعطاء حرية التعبير لكل الناس، لافرق في ذلك بين المنتمي لهذا الحزب أو ذاك، حتى يتم التعاون على الجهر بالحق وتغيير المنكر مهما كان مُقْتَرِفُوهُ، إذ بذلك تستقيم الأوضاع الإجتماعية، ويخنس المجرمون، وتؤسس دولة الحق والقانون.
ü يجب تيسير أمر العلماء المخلصين، وتشجيعهم بإتاحة الفرص لهم في المدارس والجامعات والمساجد والخطب، والكتب، وجميع وسائل الإعلام، لشرح مبادئ الإسلام للناس، إذ بذلك تَفْهَمُ الأمةُ مالدَيْها من رَصِيدٍ حَضَارِيٍّ، يستحقُّ أن يَسُودَ لِتَسْعَدَ الإنسانية به، ومالَدَى غيرها من انحرافٍ تعاني منه الإنسانية اليوم نَكداً وشقاء.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>