تأملات في مسألة التعليم


مما هو غني عن البيان، أن تعليمنا -ومنذ الاستعمار- أسير ما بين مطرقة الغرب وسندان المسؤولين عنه في بلادنا الاسلامية.
فالغرب -جملة- لا ينام عن قضايانا الحضارية لحظة واحدة، وبالأخص قضية التعليم، باعتبارها قضية القضايا، ولأن التعليم -كما يقول محمد إقبال رحمه الله- يعني على الطريقة الغربية، الحامض الذي يذيب شخصية الكائن الحي، ثم يكونها كما يشاء… فالغرب لا يفتأ يخطط ويبتكر أحدث المناهج وألمع البرامج، لضرب الروح التربوية، ونسف الجوهر الحضاري لمسألة التعليم، وهو يعلن موقفه ذاك صراحة، من غير حرج ولا تستر، على لسان مبشريه وقساوسته.. فهذا المستشرق هاملتوث جب يصور -هو وخمسة من رفاقه في كتابه وجهة الاسلام- الأهمية القصوى التي يوليها الغرب للسيطرة على التعليم في البلاد الاسلامية، وإحكام القبضة على مناهجه.. فيقول : >لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي، عن طريق المدارس العصرية والصحافة، أن يترك في المسلمين ولو من غير وعي منهم أثرا يجعلهم في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد، ولا ريب أن ذلك -خاصة- هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الاسلامي على حضارتهلقد برهن التعليم على أنه أثمن الوسائل التي استطاع المبشرون أن يلجأوا إليها في سعيهم لتنصير سوريا ولبنان… إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب شرقي مقدس أمراً صعبا جدا…!< (نقلا عن سموم الاستشراق والمستشرقين للاستاذ أنور الجندي) وليس التبشير والاستشراق وحده الذي يقف وراء هذه المؤامرة فحسب، ولكن -يقول الاستاذ أنور الجندي- جل الهيآت والمنظمات الدولية تسهم بقسط وافر في هذا المخطط الماكر، بما في ذلك الأمم المتحدة، واليونسكو وغيرها، التي تعتبر امتدادا لمخططات ترمي إلى فصل الدين عن الدولة، وتخريج شباب متميع منهزم خاضع للاهواء والشهوات. إن هذا الكيد وهذا العدوان الذي يتمثله الغرب بما له من قوة ونفوذ تجاه مسألة التعليم في بلاد المسلمين، لا يدل على شيء، سوى عما ينطوي عليه التعليم على الطريقة الإسلامية، من صدق في تحقيق الشموخ والتوهج الحضاري لهذه الأمة؛ وهذه من البديهيات التي يعترف بها الغرب ضمنيا، وإلا لماذا هذه الحرب التي لا هوادة فيها؟! “فقد أدرك أعداء الاسلام أن النظام التعليمي والتربوي له أثره الفعال في توجيه حاضر الشعوب الإسلامية ومستقبلها نحو المصير. نجد ذلك في مؤتمرات اليهود في بازل عام 1897، حين أكد حكماء صهيون أن أفضل طريقة لتحقيق سيطرتهم على الشعوب الأخرى هو التأثير على النظام التعليمي والتربوي، بتدريس الناشئة التاريخ القديم، المشتمل على المثل السيئة أكثر من اشتماله على المثل الحسنة، وعلى ضرورة طمس العصور المضيئة في ذاكرة النشء الجديد، التي قد تكون معارضة لمخططات اليهود وأمانيهم في تحقيق السيطرة على العالم” (نقلا عن ذ. أنور الجندي، سموم الاستشراق والمستشرقين) هذا وقد أفلحت المؤامرات الشيوعية والرأسمالية، تحت المظلة الصهيونية، في إحكام قبضتها على التعليم في البلاد الاسلامية، سواء في مرحلة الاستعمار أو في مرحلة الاستقلال، بحيث أوجدت لها على أرض الاسلام والمسلمين، من ينفذ أغراضها ومقرراتها على أحسن وجه. وجدير بالذكر أن المحنة التي يمر بها تعليمنا، قد ساهم فيها، وبقسط وافر، دعاة التحرر والتقدمية من بني جلدتنا، هؤلاء الذين أسلم لهم الغرب قيادة الثقافة والصحافة والتعليم في أغلب بلاد الاسلام، فكانوا مستغربين أكثر من الغربيين أنفسهم، فقدموا سموم الشيوعية والإباحية والإلحاد.. تحت اسم التجديد والحداثة والعصرنة… والنتيجة كانت هي تقويض رسالة التعليم، وخصوصا في جانب ضيق جدا وهو تعليم القراءة والكتابة -إن أمكن- وكفى، دون اكتراث بالجوانب التربوية، والخصوصيات الحضارية لهذه الأمة ودون ربط بين محتوى المقررات وقضايا العقيدة وبكلمة واحدة، تغييب الثقافة الإسلامية عن المنهاج الدراسي، بل محاربة هذه الثقافة حتى لا تبقى للأجيال المسلمة أية صلة بعقيدتها وبتاريخها. ولعل المحاولة التي قامت بها دولة إسلامية كمصر -قبل سنتين- تقف شاهدا واضحا على صدق ما نقول، ومعلما بارزاً على طريق التغريب والأمركة والمصالحة مع اليهود ويتعلق الأمر بالمؤامرة الخسيسة حول تطوير التعليم بمصر، وذلك بحذف كل الآيات الخاصة باليهود والجهاد والغزوات التي كانوا طرفا فيها، من مناهج التربية الدينية والتاريخ، يقول جويدة أحمد سليمان مستشار الدين واللغة العربية في مصر : “إن الحذف والتشويه تم بالتدريج، حتى صار لا يوجد في كتبنا كلمة واحدة ضد اليهود الآن!” وأكد سماح رافع رئيس قسم التجريب بشعبة بحوث تطوير المناهج بالمركز القومي للبحوث التربوية، أن المعونة الأمريكية اخترقت وزارة التربية والتعليم، حيث قدمت إدارة ريغان منحة قدرها 57 مليون دولار عام 1988، ووجهتها مباشرة للوزارة المحددة (مجلة فلسطين المسلمة عدد حزيران 1993) وحسبنا أن نقول : لم يكن ليتم هذا لو لم يجد الغرب في العالم الإسلامي من ينفذ أغراضه تلك، من خلفاء الاستعمار وأذنابهم. وبعد فإن الناظر المتأمل في واقع التربية والتعليم في بلاد المسلمين، لا يكاد يلحظ كبير فائدة تتحقق لصالح أمة تريد أن تخرج من متحف التخلف إلى دنيا الشهود الحضاري، وبتعبير الاقتصاديين نقول : إن التعليم في بلادنا الإسلامية أصبح -منذ أمد بعيد- عملة بدون رصيد! كل ما هنالك، أجيال تلج المدارس والمعاهد والجامعات… ثم تتخرج منها بشهادات عليا، ولكن دون أن يكون لهذه الأجيال أدنى وعي بعقيدتها وبتاريخها وحضارتها، وبما يحاك حولها من مكائد ومؤامرات، ودون أن تعرف أن هناك حربا حضارية قائمة يستهدف منها دينه وفكره وثقافته؛ على أن التحقق بهذا الوعي وبتلك المعرفة هو -لعمر الحق- الرصيد الثمين لتعليمنا. ومن نافلة القول أن نقول : إنه برغم المناظرات والندوات والمؤامرات التي عقدت وتعقد لأجل دراسة إشكالية التعليم – واقع وآفاق.. ورغم القرارات والتوصيات التي تخرج بها اللجن المتخصصة لمعالجة أزمة التعليم… فإن كل ذلك لم يقدم أي بديل للوضعية القائمة، بل يزيد المعظلة تفاقما وعمقا. وهذا ما يشحننا بالثقة حينما نقول : إن تجاوز محنة التعليم رهين برد الفروع إلى أصولها؛ ونقصد بذلك أن ينبثق التعليم في العالم الاسلامي باعتباره جزءا عن الكل الذي هو الحضارة الاسلامية بمكوناتها العقدية والفكرية والتاريخية وليس هناك سبيل آخر. ذ. الحسن المريني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>