امرأة وأية امرأة!


تعجبني الأم التي تدفع ابنها، فلذة كبدها، إلى الجهاد دفعاً، وتحثه عليه، وتجمّله في عينيه، وهي تدافع في الوقت نفسه حب ابنها، في قلبها، وتعلّقها به، فليس أشد على الأم من أن تفقد ابنها. لكنه الإيمان : صانع الأعاجيب. اقرؤوا معي قصة هذه الأم، وأنتم تعرفونها، فهي نموذج قلما نظفر بمثله هذه الأيام. لما مات معاوية، دعا عبد الله بن الزبير إلى الخلافة في الحجاز، فلما صار الملك إلى عبد الملك بن مروان بعث إليه الحجاج لقتاله فحاصره في مكة، وطال الحصار حتى يئس ابن الزبير من النجاح، ورأى نفسه بين أمرين لا ثالث لهما : إما الأنفة ومصيرها الموت، وإما الحرص على الحياة ويعني الرضوخ والاستسلام. وهنا رجع إلى أمه أسماء بنت أبي بكر يستلهمها الرأي، ويستشيرها في القتال أو التسليم. وماذا عسى أما أن تجيب ابنها في مثل هذا الموقف؟ هل تؤثر حياته وإن خالطتها ذلة؟ أم تخالف طبيعة الأمهات فتضغط على عواطفها وتسوقه للموت؟. لقد اختارت أسماء الشق الثاني، وهي ترى الموت ماثلاً أمام عينيها حينما نصحت ابنها بأن يثابر على المقاومة، وهي تترقب له سوء المصير قالت لابنها عبد الله : >إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فامض عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية فيلعبوا بك. وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت. أهلكت نفسك ومن معك. وإن قلت : إني كنت على حق ولما وهن أصحابي ضعفت نيتي، فليس هذا فعل الأحرار، وليس فيه خير.كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير. والله لضربة بالسيف في عزّ.. أحب إليّ من ضربة بسوط في ذل<. عاد عبد الله إلى الحرب بتحريض أمه فقتل. أجل قتل ، ولولم يقتل يومئذ لما فاته الموت بعدئذ. غير أنه أحيا ببسالته هذه ذكراً خالداً أبد الدهر، كما سجلت أسماء بنصيحتها له شرفاً لم يدركه سواها، بل سجلت شجاعة لم يدركها الشهداء في ساحة الجهاد فلقد تبلغ الحماسة بالمقاتل حداً يصعب معه التفكير بالموت، بينما يظل التفكير على أشده حينما تستشار أم فتفضّل موت ولدها على الحياة الذليلة. إنها أم.. وأية أم..!. من كتاب رسالة الى حواء

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>