الخلافات الفقهية وكيفية التعامل معها 2


كثيرا ما يستفتي المسلم العلماء في بعض أمور دينه فيجيبونه إجابات مختلفة، مما قد يجعله يحار في أمره، ويضطرب في اختيار السبيل التي يسلكها، وهذا أمر يحصل له سواء كان في المهجر أو في وطنه الاسلامي. ويرجع ذلك إلى أن الفقهاء وعلماء الشريعة قد اختلفوا في كثير من الفروع والجزئيات لأسباب سنذكرها بإجمال.

والحقيقة أننا اذا نظرنا في هذه الاختلافات وما نتج عنها من وجود مذاهب فقهية تعددت فيها مناهج الفهم والاستنباط وطرق الاستدلال، وجدنا أنها مظهر من مظاهر اليسر والسعة على المكلفين، لأن ظروفهم واحوالهم تختلف باختلاف الزمان والمكان. وإلزامهم مع قيام ذلك بقول واحد وفتوى واحدة في الامور الاجتهادية فيه من العسر والمشقة ما فيه.

واختلاف الفقهاء في فروع الدين وجزئياته أمره سبيل إلى التخلص منه، لأنه نابع من طبيعة اللغة ودرجة الفهم، فتفاوت العلماء في المدارك والقدرات العقلية ومستويات الفهم والاستنباط، ينبني عليه اختلافهم في نتائج ذلك وآثاره، فضلا عمَّا هو ذاتي في لغة النصوص الشرعية من عوامل الاختلاف في فهم المعنى المراد، كظاهرة الإجمال والاشتراك وغيرهما من الظواهر اللغوية.

وهذا الاختلاف الفقهي لا يتنافى مع الوحدة الاسلامية ولا يمسها بسوء، لأنه اختلاف في فروع الدين لا في أصوله وكلياته. ولأنه إنما يكون في الأمور الاجتهادية أو في النصوص ذات الدلالة الظنية أو الثبوت الظني. ولأنه اختلاف يسر وسعة ورحمة لا اختلاف فرقة ونزاع وشقاق. ولأنه اختلاف يمليه الفقه والعلم بالدين لا مجرد الهوى والتشهي.

والاختلاف بهذا المعنى، وبهذا الحجم. وفي هذا المجال -مجال الفروع، والظنيات، والاجتهاديات- أمر مشروع، قامت على شرعيته دلائل كثيرة منها:

1- قوله تعالى : >فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول< (النساء : 59) فقد رتبت الأية على وقوع الخلاف وجوب رده إلى الله والرسول، وهذا إقرار بوقوعه بين العلماء وانما شُرط مرده والاحتكام فيه الى الكتاب والسنة حتى لا يكون فيه مدخل للهوى

2- قوله صلى الله عليه وسلم : >إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر< (البخاري ومسلم واصحاب السنن، عن عمرو بن العاص). فالحديث يبيح الاجتهاد ويرتب الاجر للمجتهد في حالة الصواب والخطأ، وهذا يستلزم إباحة الاختلاف، لأن الاجتهاد يفضي إلى الاختلاف ويقتضيه، فلما أبيح الاجتهاد أبيح ما يفضي اليه بالضرورة، وإلا كان الأمر من قبيل التكليف بالمحال وما لا يطاق.

ومثل هذا الحديث كل الاحاديث الاخرى التي تبيح الاجتهاد للعلماء.

3- وقوع الخلاف -الفروعي- بين الانبياء والمرسلين، فقد قص القرآن الكريم نماذج من اختلافاتهم في فهم بعض أمور الدين ومسائله، كاختلاف داود وسليمان في القضاء بين صاحب الحرث وصاحب الغنم، قال تعالى : >وداود وسليمان اذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما<(الانبياء 78-79) وكاختلاف موسى واخيه هارون في قضية العجل.

4- وقوعه بين الصحابة في فروع كثيرة في العبادات والمعاملات والسياسة الشرعية.

5- وقوعه بين الشرائع السماوية في بعض الفروع.

6- وقوعه بين الفقهاء وأئمة الاجتهاد فلو كان محظورا لما اجتمعت عليه الامة.

7- دلالة قواعد الشرع عليه، ومنها : ان الحرج مرفوع، فلو ألزم الناس كلهم بقول واحد في المسألة مع اختلاف اموالهم وبيئاتهم، لنالهم من ذلك حرج شديد، لا يرفعه عنهم إلا التوسعة عليهم بالاختلاف في الفروع.

هذه بعض الادلة التي تدل على مشروعية الخلاف بين الفقهاء في فروع الدين ومسائله الجزئية.

ويرجع هذا الخلاف بين الفقهاء إلى اسباب كثيرة يمكن ردها إلى الاصول الآتية.

1- النص : فقد ينشأ الخلاف بينهم بسبب النص الشرعي من جهة ثبوته، أو دلالته، أما من جهة ثبوته فكاختلافهم في خبر الآحاد من حيث التصحيح والتضعيف. وأما من جهة دلالته فكالصور الآتية :

أ- الاختلاف في دلالة النص الشرعي بسبب الاشتراك اللغوي، مثل قوله تعالى : >والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء<(البقرة : 228) فالقرء لفظ مشترك بين الطهر والحيض. ومثل قوله تعالى : >إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح<(البقرة : 237). والذي بيده عقدة يحتمل الزوج والوالي، وهذا من قبيل الاشتراك في الجملة.

ب- الاختلاف بسبب الحقيقة والمجاز : كقوله تعالى >اولامستم النساء< فالملامسة حقيقة هي اللمس والمس، ومجازا هي الجماع.

ويدخل في الحقيقة والمجاز التقديم والتاخير، والحذف والذكر، وامثلتهما كثيرة في النصوص الشرعية.

ج- العموم والخصوص : كقوله تعالى : >حرمت عليكم الميتة< فهو عام في كل ميتة، لكن السنة خصصته بقوله صلى الله عليه وسلم في البحر : >هو الطهور ماؤه الحل ميتته< فالجمهور حملوا العام على الخاص، لقطعية دلالة الخاص وظنية دلالة العام عندهم، خلافاً للأحناف، لأن دلالة العام عندهم أيْضا قطعية.

د- الاطلاق والتقييد : فقد يرد في المسألة الواحدة نصان : احدهما مطلق والآخر مقيد، والفقهاء قد اختلفوا في ذلك : هل يحمل المطلق على المقيد، ام يُحمل كل في دائرته، ومثال ذلك : الكفارة بالعتق، فقد وردت الرقبة مطلقة في آية الظهار، ومقيدة بالإيمان في آية القتل الخطأ.

هـ- وجوه القراءات القرآنية كقوله تعالى : >وارجلكم الى الكعبين< قرئت بالنصب والخفض فعلى قراءة النصب يكون حكمهما الغسل وعلى قرادة الخفض بجزئ المسح..

و- وجوه الإعراب : كقوله صلى الله عليه وسلم >ذكاة الجنين ذكاة أمه< فقد روي بالرفع والنصب في لفظتي “ذكاة”، والمعنى يختلف فيهما وينبني على ذلك اختلاف الحكم.

ز- غرابة اللفظ : كقوله صلى الله عليه وسلم : >لا طلاق ولاعتاق في إغلاق< فقد فسر الاغلاق بالغضب، والاكراه، والجنون.

2- التعارض والترجيح : المراد بالتعارض : تعارض الأدلة الشرعية في عقل الفقيه وفهمه، وهو أن يقتضي احد الدليلين خلاف ما يقتضيه الآخر.

والترجيح : تقوية أحدهما علم، الآخر، للعمل به. وانما يكون الترجيح بمرجحات ظنية اجتهادية، ومن ثم نشأ الخلاف بين الفقهاء عند الترجيح، لأن ما ينتهض راجحا عند بعضهم قد يكون مرجوحا عند الآخر؛ كما اذا تعارض دليلان احدهما يتبت والآخر ينفي، فمن الفقهاء من يرجح دليل الاثبات لأن فيه زيادة علم، ومنهم من يرجح دليل النفي لان نفي الشيء إثبات لضده

3- الاجتهاد : وهو باب واسع يدخل فيه كل الادلة العقلية من قياس واستصلاح واستصحاب لان هذه كلها صور للاجتهاد. ومعظمها مختلف فيه بين الفقهاء والاختلاف في حجية الدليل يستلزم الاختلاف في فروعه وتطبيقاته.

4- القواعد الأصولية : وهي القواعد اللغوية التي وضعها علماء أصول الفقه لتفسير النصوص الشرعية واستنباط الاحكام منها، وقد اختلفوا في جملة منها مثل :

- الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده؟

- النهي هل يقتضي الفساد؟

- الأمر بعد النهي هل يفيد الاباحة أم غيرها؟

- مفهوم المخالفة هل هو حجة؟

واذا وقع الخلاف في اصل القاعدة لزم أن يكون في فروعها.

5- القواعد الفقهية : وهي الاحكام الكلية التي توصل الفقهاء إلى كليتها عن طريق الاستقراء وقد اختلفوا في كثير منها مثل :

- الرخص هل تناط بالمعاصي؟

- الغالب هل هو كالمحقق؟

- ما قرب من الشيء هل يعطي حكمه؟

واذا كان الخلاف في أصل القاعدة لزم أن يكون في تطبيقاتها.

هذه أصول أسباب اختلاف الفقهاء، تندرج تحتها أسباب فرعية كثيرة وقد نتج عنها نشوء مذاهب ومدارس فقهية تختلف فيما بينها في مناهج الاستنباط ومناهج الاستدلال. واذا كان الخلاف الفقهي الفروعي -كما تقدم- مظهراً من مظاهر التيسير والرحمة بالمسلمين، فإن هذه المذاهب الفقهية التي تبلوره هي أيضا مظهر اليسر والسعة عليهم، فبأيها أخذ المسلم فلا حرج عليه ما لم يتتبع رخصها عن قصد وعمد.

ولا عبرة بما قرره المذهب إذا خالف في ذلك صريح القرآن والسنة الصحيحة، أو أصلا من أصول الشرع، وقد خالف كثير من الفقهاء مذاهب أئمتهم لأجل ذلك.

ولا حرج أن يكون الإفتاء من أكثر من مذهب، ولا من خارج المذاهب، إذا كانت الفتوى في كل ذلك قوية الدليل حسنة التوجيه، لأن المسلم إنما هو ملزم بما قام عليه الدليل الشرعي الصحيح، ولأنه لم ينقل عن احد من أئمة المذاهب الفقهية أنه ألزم غيره بمذهبه أو أمر بذلك.

والمسلمون اليوم أحوج إلى هذه المذاهب كلها والاستعانة بما تزخر به من اجتهادات وفتاوى، لما جد في جياتهم من حوادث ووقائع. والمسلمون في المهاجر الاوروبية أولى بالاستفادة من ذلك لما يعانونه من الغربة الدينية والاجتماعية وصعوبة تكييف واقعهم واخضاعه لشرع  الله عز وجل، ولكثرة مايحيط بواقعهم هذا من العوائق والمثبطات والمشاكل التي تفتن عن الدين وتحول بين تطبيقه.

د.محمد الروكي


اترك رداً على عبد الإله إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

2 thoughts on “الخلافات الفقهية وكيفية التعامل معها

  • عبد الإله

    السلام عليكم ورحمة الله.
    بارك االه في شيخنا الفاضل وبارك في علمك ونفع به كل طالب وباحث وأن يجعله في ميزان حسناتك إنه ولي ذلك والقادر عليه.

  • حنان وهبي

    ما راي فضيلتكم فيمن جعلوا الحق واحدا لا يتعدد و ألغووا كل كالاجتهادات الفقهية في رأي واحد و الزموا الناس به بل نعتوا من يخرج عنه بالضلال بل بالمروق عن الدين و بالفسق و بالكفر . و اعتبروا هذا الرأي او هذا المذهب هو الفهم الاوحد للدين لا غيره . لا اعلم فعلا من اي مدرسة نهلوا علوم الدين و عن اي اساتذة تعلموا و درسوا? ألا يفترض ان تكون مناهج التدريس للعلوم الشرعية موحدة بين جميع المدرسين في العالم الاسلامي ? لأن ما يدرس في بعض الجامعات و المعاهد الدينية يكاد ان يكون نشازا في ايصال المعلومة الشرعية و بالتالي عواقبه على الطلبة و المتعلمين و على العامة الذين يتلقون عنهم الدين وخيمة بسبب هذا التلقي القاصر عن فهم العلوم الشرعية. و بالتلي من اين يستقون هؤلاء مناهجهم التعلبمية?