“هذا زمن السكوت”


طَبَقٌ من الثمر وكأس من الحليب أهديه لكم، لكل واحد منكم، أمام خيمة نصبت فوق رمال ذهبية بجانب نهر أشرقت عليه الشمس فتحولت أشعتها إلى خيوط حريرية تدلت على قَفْطَانٍ زَيَّنَتْه عَرَاجينُ النخل وبَلَحِهَا وَجريدِها فحولته جنة أرضية تشتهيها كل نفس تواقة إلى الحرية، والكرامة والحوار والبراءة…

وبعد : فاعلموا أنار الله أفئدتكم أن أنظمة العنكبوت أصبحت تكمم الأفواه فَتُرْغِمُها على السكوت. فقلت في نفسي : (سبحان ذي المُلْكِ والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي جعل أوهن البيوت بيت العنكبوت) قال لي صاحبي وهو يَسْتَرقُ السمع : (سلِّم تَسْلَمْ، ولا تَعْتَرِضْ تَخْسَرْ وتندم). فأردت أن أفصح عن هويتي، وأبَيِّنَ طويتي، لعله ينتفع بموعظتي، فيتعظُ أو يفهم ما فيها فيبتعد،… فأحنى رأسه، وجمع ثوبه ونظر أعلاه وأسفله، ويمينه وشماله وخلفه وأمامه، فظننتُ أن صاحبي فقد عقله أو أنه أراد أن يكون كذلك. لكنه أخذ بيدي وأطلق لسانه، (في زمن السكوت طبعا) وسوى ألفاظه، فنطق حكمة وقال : هذه أربعة أمور خذها على سبيل النصيحة :

أولها : إذا أردت أن تَسْعَد وتَنْجُو من “الفضيحة”، لا تَسْأل ولا تُكَلِّمْ، لأن سؤالك من السبع الموبيقات، وإثمه لا يجبر بأي نوع من الكفارات، لكن إذا سألك “ملك السؤال” فانْفِ، واجْزِمْ، وليكن جوابك “لَنْ” و “لَمْ”، وإذا استُفتيت فاحذر أن تضع “لا” محلَّ “نعم”، فإن صندوق الاقتراع إما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر جهنم. وإذا مررت بِبابِ الوالي فلا تَشُمْ ولا تَتَنَسَّمْ، فإن عبير الانظمة، يحملك إلى الكنائس والأديرة، ويجعل عقلك وقلبك ملتقىً للحاخامات والرهبان، ومعبداً للأوثان والحيوانات والأصنام (اللهم لا تمسخنا قردة وخنازير) آمين يارب العالمين. وربما يسقيك داخلها ب… خـ.خم. خمر. بخمر الكأس، فيلقي عليك خبير الشرطة القبض بتهمة الخيانة والمؤامرة والدس، وقد يضربك ضربتين : إحداهما للرجل والأخرى للرأس، وبعد المحاكمة ينشر في الإذاعة الرسمية “انْفُك في وجهك مصنع للأسلحة الجرثومية”.

وثانيها : اعلم أنه في كل غار يستقر “فأر”، وفي كل زاوية يقف “قط” فقد يخرج الفأر ويسلم عليه القط (رغم العداوة التاريخية بينهما) لأنه ربما أدرك أن حريته تنتهي عندما تبتدئ حرية الفأر أو عندما يريد أن يعتدي. لكنه إذا خرج رجل موسوم الجبْهة (وقد لا يكون طويل اللحية) أعلن الوالي حالة استنفار بعدما أثْبَتَتْ له المخابرات ال. ال. الامريكية عفوا الصهيونية أنه ينادي بالحق والمساواة والحرية، وأنه فتيل الثورة الحضارية. فتجد “غزرائيل” واقفا بالباب، معه جمهرة من الكلاب، تهزُّ يداً وتحط رجلا ثم تقف صفا صفا، لتقيم الحصار وتشهر في الإشهار(موضة الأصولية والجماعات المسلحة) وخلال المناورة  يمنع المؤذن من الأذان وبعدها بقليل (كأن لم يقع شيئا) يرفع صوته من أعلى المِئذَنَةِ (النوم خير من الصلاة) فلما استيقظ الناس وانتفض الجمهور (وكانت الانتفاضة صمتا لانه زمن السكوت) تكلمت “نملة” بريئة لا تحمل لا سلاحا ولا أوسمة وإنما علم الكل أنها “مؤمنة” قالت : لو قال حي على الجهاد فرأسه هذا الذي تحدثونه – حفظ الله رؤوسكم- سيقطعونه. فظننت أن صاحبي أصيب بالهَلْوَسَةِ فقلت له : أراك تحلم في اليقظة! فأجاب -وقد كان يتكلم حقيقة- استغفر الله ما أكذبني!

وثالثها : في هذه الديار يتساوى العالم والبهلوان وتعبد الأصنام، والجلاد ينطق الأوثان، والصلاة تمرد وعصيان، والحج والعمرة طواف وسعي وهرولة من البيت الأبيض/الأسود إلى الفاتيكان، والصوم امساك عن حقوق الإنسان بدون خوف أو قيد والشهادة إيمان بوحدانية السلطان، والسياسة حرام على الشعب حلال على النظام، ولا تستغرب إذا وجدت من يقول : حمداً للات والعزى! ورحم الله يغوث ويعوق ونسراً!. ثم بدأ صاحبي يتكلم بشكل عفوي بضمير الجمع فقال : صدقوا أو لا تصدقوا عُودُ الأرك صاروخ، واللحية بندقية، والحجاب أقنعة (تحجب الغازات السامة – أصبح سلاحا) وحتى المسك ياسادتي ممنوع، لأنه في زعم خبراء محاربة انتشار الأسلحة النووية في العالم الثالث، مادة أولية لصناعة قنابل مسيلة للدموع.

ورابعها : يا مسلما لا تبالي، ولا تسهر الليالي، ويا مبعدا عن أرضه لا تسأم، ولا تندم، فالصهيوني مهما تجبر سيهزم، ويا أمريكا جوعي الشعوب وقوي سلطة الأنظمة ويارابين كيف يُعَمَّرُ وطن له شعب، وكيف تُكَسِّرَ عظام ابن لازال يحبو… ويامجلس اللاأمن لماذا يباد البسنيون ويُذَبِّحُهُم الصرب، ولماذا يجوع الانسان ويَسْعَدُ الخنزير والكلب…؟ ويا… عار على أمة دينها أنْفٌ وأهلها ذَنَبُ، والوالي الفرد سيدٌ، والشعب كله عبد، ويامعشر الطلاب، فجروا كل الغضب وارفعوا الحظر الذي انتصب وعليكم أن تحترموا. النظام والأحزاب بعدما تيقنت وبالجملة انهم مناضلون “شرفاء، شرفاء” لكنهم في الأوقات الحاسمة أول من يرجع إلى الوراء…

فقلت : سبحان ذي المُلْكِ والملكوت، سبحان ذي العزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الذي جعل أوهن البيوت بيت العنكبوت، ولكن صاحبي كعادته رفض البيان وقال : “هذا زمن السكوت من قال الحق يموت”.

عبد الرحمن الدويري

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>