ضوابط العمل الإسلامي (6)


الضابط الرابع : الدعوة الإسلامية دعوة توفيقية لا توقيفية

إن تبدل الأزمان والأمكنة له أثر بالغ وفعال في التعامل مع المبادئ واسقاطها على الواقع، وحكمه بتشريعات تلك المبادئ وقوانينها دون الإخلال بالأسس والركائز والقواعد الكبرى التي تبنى عليها تلك المبادئ. وهذا شيء مقرر ومعروف. وممارس من قبل علماء الاسلام في تعاملهم مع أحكام وتشريعات الدين الإسلامي، ذلك أن التشريع الإسلامي المتعلق بالأحكام المنصوص عليها مُسَلَّم >لا يجتهد فيه< بينما توجد أحكام أخرى غير منصوص عليها قابلة للإجتهاد والتوسع واعتبار الزمان والمكان والعرف والعادة ومصالح الناس على اختلاف طبائعهم وعاداتهم وتقاليدهم. كما هو ملاحظ في اجتهادات الفقهاء وتفريعاتهم، فكيف لا يسمح بهذا التوسع والاجتهاد في ميدان الدعوة الذي يعتبر أكثر خصوبة وأشد التصاقا وتأثرا بتغير الزمان والمكان وعادات الناس وطبائعهم. ذلك أن الهدف المنشود عند كل من يتصدى للعمل في هذا الحقل هو الوصول إلى الغاية الكبرى التي يسعى إليها كل السائرين في طريق الدعوة -وهي عبادة الله وتعبيد الناس له ونشر العدل والرحمة والإخاء بين الكائنات كلها- ولو تعددت الأسماء واللافتات والعناوين. الشيء الذي يلزم كل العاملين في هذا الحقل بالنظر إلى الغاية القصوى المرجوة من الدعوة الإسلامية دون التآكل، أو التناحر، أو التضاد. بحيث لا حاجة إلى محاولة الاستدلال بالنصوص ولي أعناقها لتوافق توجها إسلاميا معيناً وسلب الشرعية من اتجاه آخر، مادام الجميع قد أخلص النية واتجه نحو الهدف، وإن سلك طريقا غير الذي سلكه الاتجاه الأول شرط عدم الخروج عن المعالم الكبرى للمبدإ الإسلامي القويم عملا بالحكمة التي أطلقها أحد مفكري ودعاة الإسلام الشيخ حسن البنا >لنتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه<.

وهذا هو المراد من قولنا >الدعوة الإسلامية توفيقية وليست توقيفية< بمعنى أن أساليب الدعوة الإسلامية لم تحدد بنصوص شرعية ثابتة، وإنما نص الوحي على الدعوة وممارستها وتحديد هدفها وبعض أساليبها العامة تاركاً الفرصة للعقل البشري لاستعمال قدراته ومعطياته وكفاءاته ليضع ويبتكر الأساليب والأدوات المناسبة للبيئة التي يدعو فيها، ويعمل في محيطها  مُتَكِلاً في ذلك على التوفيق الرباني الذي يزداد ويقوى كلما صفت السرائر وخلصت النيات وابتغي وجه الله من ذلك العمل.

وموضوع صفاء السرائر وإخلاص النيات هو صمام الأمان في العلاقات والروابط التي تربط بين التجمعات والتشكيلات الإسلامية، بل هو المدخل و السبيل إلى الوصول إلى نفس الهدف الذي يسعى إليه الجميع دون تناحر أو نزاع أو تسابق أو تعال. وإلا بأن اغْتَرَّ كل طرف بمالديه، وحصر الحق على نفسه، وسلب الخير والمشروعية عن غيره، انطلاقا من الاعتداء بالذات، والإعجاب بالنفس عن طريق تسويل وتزيين الشيطان له ذلك، معتبراً أسلوبه هو الأنجع، وخطواته هي الأسلم، وعناصره هم الأتقى والأعلم والأحكم، دون الإستفادة مما عند الغير، ولا  مراجعة الذات، ولا احتمال الخطإ عنده كما هو عند غيره ناسين أو متناسين في الغالب حكمة شيخ الفقهاء الذي اختلف  مع غيره وعرف كيف يختلف فأطلق تلك الحكمة الناصعة لتكون منهجاً لتلاميذه من جهة ولمخالفيه من جهة ثانية. إنه الامام أبو حنيفة النعمان القائل : >رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب< نعم : إن اغتر كل طرف  بما لديه فتلك هي الفتنة بعينها والفتنة أشد  وأكبر من القتل.

ذ.  محمد الصنهاجي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>