ضوابط العمل الإسلامي 5


الضابط الثالث : العلم

العلم ركن أساسي من أركان الدعوة الى الله، فهو أول واجب أمر الله به نبيه (ص)  والمؤمنين به قائلا : >اقرأ< وربط سبحانه توحيده بالعلم فقال : >فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلاَهَ إِلاَّ اللَّهُ<سورة محمد : 19].

والعلم صفة من الصفات الواجبة في حق الرسل، وكذلك الفطانة وسرعة الادراك والانتباه. وهي صفات من المفروض ان تتوفر في الدعاة أيضاً. فالعلم هو نور العقول والقلوب، وهو الوسيلة إلى معرفة قوانين الوجود وسنن الطبيعة لتسخير مايمكن تسخيره منها في منافع الامة، وماوصف به المسلمون من تأخر وضعف، وماحدث تباعد الدعوة وأهلها عن الوسط الإجتماعي والوسط الشعبي الا بعد أن وقع التفريط في هذه القاعدة، فالعلم في الحقيقة هو أساس الدعوة، وإذا كانت الحركة جاهلة فقد تضرب نفسها بنفسها، اويضرب بعض فصائلها البعض الآخر. والعلم هنا على إطلاقه، وبمعناه العام، الا أن العلوم الشرعية -بجميع فروعها- تحتل مركز الاولوية في هذا المضمار، ابتداءً من العلم بالله، وانتهاءً بعلوم الآداب العامة. مروراً بأحكام الشرع الاسلامي ومكارمه ومقاصده، بحيث لايجوز لافراد الدعوة الاسلامية والقائمين عليها التقوقع فيما وقع فيه الاولون من الاهتمام بالاحكام، واغفال المكارم والمقاصد، ولكن المطلوب هو معرفتهما معاً، حيث إن معرفة الاحكام تجعل المسلم الداعية يضبط كيفية السير في طريق الدعوة، ومعرفة المكارم  والمقاصد تجعله يضبط الغايات والاهداف المتوخاة من الشرع الاسلامي والتزام الناس به، حيث ان العلم بالمقاصد يبلور العلم بالاحكام لتوجد أوضاعاً اجتماعية وصوراً عملية حيوية. وانظمة عمرانية وانشائية يستقيم بها أمر الناس في معاشهم ومعادهم، لان الناس إزاء غاياتهم واهدافهم في الحياة صنفان كما بينهما القرآن الكريم.

الصنف الاول : غايتهم الاكل والشرب والتمتع بملاذ الجسد وشهوات الحياة وليس وراء هذه الغاية عندهم أية غاية اخرى، لهذا فانهم يهتبلون فرص العمر وأيامه ليتمتعوا ماوسعهم التمتع بما أتيح لهم من ملاذ وطيبات الحياة الدنيا، لانه في نظرهم الكليل لاحياة بعد هذه الحياة، وانما العدم والفناء، وهؤلاء هم  شر الخلق واشقاهم كما قال تعالى : >وَالذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ويَاكُلُونَ كَمَا تَاكُلُ الأَنْعَامُ والنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ<سورة محمد : 47].

الصنف الثاني : الذين عرفوا الحقيقة وادركوا الغاية التي وجدوا من أجلها وهي عبادة الله وتعبيد الناس له سبحانه، فامتثلوا قول الله تعالى : >وَمَاخَلَقْتُ الجِنَّ والإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ<سورة الذاريات : 56] فغايتهم إذا هي عبادة الله وحده المتمثلة في الشعائر التعبدية بعد الإقرار بالوحدانية، ثم الحرص على الجانب العملي من عبادة الله المتمثل في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، وعمارة الأرض بفعل الخير وهداية الحيارى إلى الحق وقيادتهم في دروب الحياة، شاعرين انهم بعملهم هذا -هداية الخلق- قد استحقوا المكانة الرفيعة والمنزلة السامية عند الله اعترف الناس بها ام لا؟ >يَرْفَعِ اللَّهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ<سورة المجادلة : 11].

وعلم المكارم الذي هو فرع من العلوم الشرعية يشمل نوعين من العلوم :

- المقاصد : وهو موضوع طويل يستحسن ارجاؤه إلى مناسبة اخرى.

- الاخلاقيات : وهو موضوع لا يستقيم خط الدعوة ان فقد من المنتمين إلى صفها، أو ضَمُر في نفوس المنتسبين اليها، واليك أسس هذا العلم ملخصة في ثلاثة مرتكزات هي :

1- التخلية : وهي تخلية النفس والقلب والسلوك الفردي أولا ثم الجماعي ثانيا للمسلم والجماعة المسلمة من كل الاخلاق والتصورات والمفاهيم الرذيلة، وعدم حصرها في أهوائها الصغيرة، التي لا تتناسب مع النور المقذوف في قلب المؤمن >نور الإيمان<.

2- التجلية : ومعناها ملء ذلك الوعاء؛ النفس والقلب والسلوك بالمبادئ والمقومات والمفاهيم والأخلاق الإسلامية السامية حتى تناسب ذلك النور المقذوف.

3- التحلية : وهي ابراز تلك المبادئ والمقومات والمفاهيم والأخلاق الى حيز الوجود واخراجها الى الواقع المرئي الملموس من قبل الناس، ممثلة في شكل أعمال وممارسات يراها الناس، فيعجبون بها، ويقلدون حاملها ويأتسون به، وهو خط الدعوة المؤثر الذي سلكه المسلمون عبر التاريخ بدل كثرة المحاضرات والمواعظ والكتابات التي غرق فيها الكثير من المسلمين في العصر الحالي. قد تؤثر حيناً ولاتؤثر أحياناً آخر. كما أن الممارسات العملية والأخلاق المعبر عنها بالشكل الخارجي لايكون لها أثر فعال في الواقع إذا لم تنبثق من قلوب زاكية ونفوس طاهرة تحمل في طياتها نوراً يستضيء به حاملُه والماشي معه في ردهات هذه الحياة المظلمة. يقول الشيخ محمد الغزالي : >ان الحقيقة الأولى في الاسلام زكاة النفس وسناؤها. وفقدان هذه الحقيقة فقدان الاصل الذي لايسد مسده عوض، ولايفنى مكانه صلاة ولاصيام ولاجهاد ولاقيام… بل ان فقدان هذا الأصل يجعل العبادات التي يأتيها البعض نوعاً من الفساد الملفوف، فإن النيات المدخولة والقلوب الحالكة لايصلح معها عمل أبداً.

ان الله أمر الناس ان يزكوا انفسهم، وان يزكوا بيئتهم، ومن ثم يكون جهادهم العام في ترقية الجماعة جزءاً من جهادهم الخاص في تهذيب غرائزهم وتقويم مسالكهم، فإذا رأيت رجلا يشتغل بجهاد الناس وهو مذهول عن جهاد نفسه فاعلم أنه خطاف يريد الاشتغال بالسلب والنهب تحت ستار الدين<(انظر : من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث. ص : 12).

ويدخل في اطار العلم مااصطلح عليه بالثقافة. وتعني في قاموس الدعوة : معرفة الواقع وادراك مايجري فيه من كل القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، ثم كيفية التعامل مع هذه القضايا والمؤثرات والضواغط من اجل الوصول إلى الهدف -تعبيد الناس لله- دون عرقلة في الطريق أو اثارة للزوابع التي قد تثير النقع فيحجب الرؤيا، ويُرْبِكُ الحامل للواء بعدُ، فلا يستطيع متابعة السير نظرا لما احدثه سلفه من أشواك وحفر حالت دون متابعة السير وتحقيق الهدف. وامتلاك هذه الثقافة وأساليب التعامل مع الواقع يمَكِّنُ حامل لواء الدعوة من السير أطول، ويقيه من المخاطر أكثر، ويزوده بقوة للتحدي أعمق، وهو المطلوب في حاملي راية >لاإلاه إلا الله<.

 ذ. محمد الصنهاجي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>