التحذير من خطر البدعة في الدين 2/2


التحذير من خطر البدعة في الدين 2/2

 

موافقة الوحي الإلاهي وتأييده لبعض اجتهادات الرسول والصحابة :

1-اذا رجعنا إلى أسباب نزول بعْض الآيات القرآنية نجد أن الوحي الإلاهي كان يَأتي اما ابتداءً وإما بسبب مؤيِّد أو معارض أو مُعدِّلٍ لبعض الأحداث والتَّصرُّفات التي كانت تصدر عمَّنْ نزَلت فيهم الآية أو الآيات أو السُّورة. ونذكر في هذا الصَّدد على سبيل المثال. ما نُقِل عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة المنورة أمره الله أن يستقبل بيتَ المقدس فَفَرحتْ اليهود فاستقبلها بضْعَة عشر شهرا وكان يُحِبُّ قبلة إبراهيمَ فكان يدْعو الله وينظر إلى السَّماء فأنزل الله >فَوَلُّوا وُجُوهَكَم شَطْرَهُ< فارتاب من ذلك اليهود وقالوا >ما وَلاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها< فانزل >ولله المشرق والمغرب فأينما تُوَلُّوا فَثَم وَجْهُ الله< البقرة. انظر الاتقان ج 1 ص : 32

2- روى ابن عمر قال : قال عمر : وافَقْتُ ربِّي في ثلاث : في مقام ابراهيم وفي الحجاب، وفي أسارى بدر. خَرَّجَهُ مسلم وغيره. وخرجه البخاري عن أنس قال: قال عمر : وافقت الله في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث : الحديث، وأخرجه أبو داود الطياليسي في مُسْنَده فقال : حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن يزيد عن أنس بن مالك قال. قال عمر : وافقت ربي في أربع؛ قلت يارسول الله لو صَلَّيْتَ خلْفَ المقام؟ فنزلت هذه الآية : > واتخذوا من مقام إبراهيم مصَلَّى< البقرة 125. وقلت يارسول الله، لو ضربت على نسائك الحجاب فإنه يدخل عليهن البر والفاجر؟ فانزل الله : >وإذا سَأَلْتُموهُنَّ مَتاعاً فاسْأَلوهُنَّ من ورَاءِ حِجابٍ< الاحزاب 53 ونزلت هذه الآية : >ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين<؛ فلما نزلت قلت أنا :تبارك الله أحسن الخالقينَ؛ فنزلت >تبارك الله أحسن الخالقين< المؤمنون : 14 ودخلت على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : لتنتهُنَّ أو لَيُبَدلنَّهُ الله بأزواج خيرٍ منكن؛ فنزلت الآية : >عسى ربُّهُ إن طَلَّقكنَّ< التحريم 5. قال القرطبي : قلت ليس في هذه الرواية ذكر للاسارى، فتكون موافقة عمر في خَمْسٍ القرطبي ج 2 ص : 112 وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مؤيَّداً بالوحي يُصَوِّبُ ويعدِّل  ويقبل أو يرفض. والمعيار دائما هو قبول ما وافق أصلاً من أصُول الدين ورفضُ ما يخالف سنته أو يُعَارِضها وما يترتب عنه مفسدة أو ما كان فيه تشدُّدٌ ورهبانية.

بعض ما أُحدِث بحضرة الرسول ووافق عليه :

1-عن رفاعة بن رافع قال : صلَّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطسْتُ فقُلتُ : الحَمْدُ لله حمداً كثيراً طَيِّباً مباركاً فيه كما يُحبُ رَبُّنا ويرْضى. فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : من المتكلم في الصَّلاة فلم يتكلم أحدٌ ثم قالها الثانية فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة، فقال رفاعة : أنا يا رسول الله فقال : والذي نفسي بيده لقد ابتدرها بِضْعٌ وثلاثون ملكاً أيُّهم يصْعَدُ بها. رواه النسائي والترمذي< انظر نيل الاوطار ج 2 ص: 326

2- ما روي في البخاري ومسلم من ان بلالاً كان قد سن لنفسه أداء ركعتين عقب كل أذان أووضوء فأقره الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك. وهناك أحاديث كثيرة في الصحيحين تدل على قبول الرسول ما استحسنه من اجتهادات الصحابة في الدعاء والذكر والرُّقية والاكثار من قراءة سُوَّرِ بعينها من القرآن الكريم وغيرها مما لا يَسَعُ المجال ذكْرُه.

بعض ما أُحْدِثَ بحضرة الرسول ورَدَّه :

1-جاء في أول حديث من كتاب النكاح بالبخاري عن أنس ابن مالك رضي الله عنه قال : >جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أُخْبِرُوا كَأَنَّهُم تَقَالُّوهَا فقالوا : وأين نَحْنُ مِن النبي صلى الله عليه وسلم قَدْ غُفِرَ له مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وما تأخر. قال أَحَدُهُم أما أنا فإني أصلي الليل أبداً. وقال آخر أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ ولا أفطر، وقال آخر أنا أعتزل النسَاء فلا أَتَزَوَّجُ أَبَداً فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم الذين قُلْتُم كذا وكذا؟! أما والله إني لَأَخْشَاكُم لِلَّهِ وأَتْقَاكُم له لَكن أَصُومُ وَأُفْطِر وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي< متفق عليه.

2- وجاء في صحيح البخاري أيضا عن ابن عباس قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فقالوا : أَبُو إِسْرَائِيل نَذَرَ أَنْ : يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ ولا يَسْتَظِلَّ ولا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ فقال النبي صلى الله عليه وسلم مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ< رواه في كتاب الأَيْمَان والنُّّّذُورِ.

بعض ما أحدثه الصحابة والتابعون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وحَظِيَ بالقبول والإستحسان :

1- جمع عمر رضي الله عنه لمصلين على إمام واحد في صلاة التراويح في رمضان وكانوا من قبل يصلون أفذاذاً أو جماعات جماعات داخل المسجد الواحد. وروي عنه أنه قال : >إِنْ كَانَتْ هَذِهِ بِدْعَةً فَنِعْمَتِ الْبِدْعَةُ<.

2- ومن ذلك آذان الجُمُعة الأول زاده عثمان رضي الله عنه لحاجة الناس إليه وأَقَرَّهُ عليّ، واستمر عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْه وروي عن ابن عمر أنه قال : هو بدعة. ولعله أراد ما أراد به أبوه في قيام شهر رمضان. أراد البدعة اللغوية وليست بالبدعة الشرعية.

3- جمع المصحف في كتاب واحد توقف فيه زَيْدٌ بن ثَابِتٍ وقال : لأَبِي بَكْرٍ وعمَر رضي الله عنهما : كيف تَفْعَلاَنِ ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟! ثم علم أنه مَصْلَحَة فوافق على جمعه.

4-جمع عثمان الأمة على مُصْحَفٍ واحد خشية تفرق الأُمَّة، وقد استحسنه عليٌّّّّ وأَكثر الصحابة.

أخطر ما أحدث في الدين في عهد الأمويين والعباسيين :

1 – اعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمته سَتَتَّبِعُ المُحْدَثَات من الأُمور والبِدَعِ والأَهْوَاءِ كما وقع للأمم قبلهم وقد أنذرنا في أحاديث كثيرة نذكر منها هذا الحديث : أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسْرائيل حَذْو النَّعْلِ بالنَّعْلِ حتى إن كان مِنْهُم من أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَّةً لكان في أمتي مَنْ يَصْنَعُ ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً وَتَفْتَرِقُ أمتي على ثَلاَثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كلهم في النار إلا مِلَّةً وَاحِدَةً قالوا : وَمَنْ هي يا رسولَ اللهِ؟ قال ما أَنا عليه وَأَصْحَابِي< نقلا عن كتاب الصوارم والأسنة في الذَّبِّ عن السنة للشنكيطي ص : 302.

وروى ابن حميد عن مالك قال : لم يكن شيء من هذه الأهواء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان. وكان مالك يشير بالأهواء إلى ما حدث من التفرق في أصول الدين من أمور الخوارج والروافض والمرجئة ونحوهم ممن تكلم في تكفير المسلمين واستباحة دمائهم أو في تخليدهم في النار بعد تَفْسيقهم< عن جامع العلوم والحكم لابن رجب ص : 235.

2 – وأصعب من ذلك ما أحدث من الكلام في أفعال اللَّهِ وقضائه، ومن الكلام في ذات الله وصفاته وكلامه مما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون لهم بإحسان. ولما سئل الإمام مالك عن الإستواء على العرش. أجاب بقوله : الإستواء غَيْرُ مَجْهُولٍ، والكَيْفُ غير معقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤال عنه بِدْعَةٌ.

3 – ومما أحدث في الدين الكلام في الحقيقة بالذَّوْق والكَشْفِ، والزَّعْم بأن الحقيقَة تُنَافي الشريعة، وان المعرفةَ وَحْدَهَا تَكْفي مع المَحَبَّة، وان الشريعة إنما يَحْتَاجُ إليها العَوَّامُ وغَير ذلك مما سَارَ عَليه المُتَصَوِّّّفُونَ وَالطُّرُقِيُّّّّّّون المتطرِّّفُونَ.

بعض ما هو محل خلاف بين العلماء هل هو سنة أم بدعة:

1-مسألة القُنُوتِ في صَلاَةِ الصُّبْحِ بين النَّّّفْي والإثْبَاتِ والمَحَلِّّ. وماذا يترتب عن تركه؟ وهل يعتبر القنوت بعد نزول قوله تعالى : >لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ< آل عمران 128.

2-مسألة القراءة الجماعية للقرآن الكريم وكذا قراءة القرآن بالأجرة وإهداء ثواب القراءة للأموات.

3-مسألة زيارة القبور والأضرحة والتوسل بأصحابها والطواف بها…

4-نعم يعتبر من السنة الحسنة تلك الإحتفالات التي يقوم بها المسلمون عند مناسبات معينة كبداية العام الهجري، والمولد النبوي (إذا لم تصاحبه عادات منافية للدين) وعند ذكرى الإسراء والمعراج وذكرى فتح مكة وغزوة بدر، وغيرها مما يتوخى منه ربط الأجيال بتاريخ أمتها المجيد.

استنتاجات :

إن ما يمكن أن نخلص إليه في نهاية تحليل هذا الموضوع هوالحقائق التالية:

1-كل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل يرجع إليه فهو ضلالة، والدين منه بريء، وسواء في ذلك مسائل الإعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة.

2-إن ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع يرجع إلى البدع بالمعنى اللغوي وليس بالمعنى الإصطلاحي الشرعي وهو ما عناه عمر بقوله عند جمع الناس على صلاة التراويح (نعمت البدعة هذه) وإلا فالمحدثات التي لها أصل في الدين تندرج كلها ضمن السنة الحسنة وهي التي سماها الأصوليون ب : >المصالح المُرسلة< أو >الإستصلاح<.

3-إن أخطر البدع التي لحقت بدين الإسلام في أصوله بدعتان هما:

أ-بدع العقائد التي خرجت بها طوائف من الدين وكان ذلك منذ حادث الفتنة الكبرى مقتل عثمان رضي الله عنه، وما نشأ عنه من ظهور الفرق السياسية والكلامية كالخوارج والروافض والمعتزلة والمرجئة… والتي صارت تتراشق فيما بينها بالتكفير والتبديع والتضليل والتحديث في الدين.

وَكُلُّهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ مُلْتَمِسٌ

رَشْفاً من الْبَحْرِ أَوْ غَرْفاً مِنَ الدِّيَّمِ

ب-بِدَعُ الحكم بما لم يأذن به الله وأخطرها الخروج عن شريعة الله وهذه البدعة قد شملت معظم البلاد الإسلامية وقد خطط لها أعداء الإسلام وتظاهر عليها : المستشرقون والملحدون العلمانيون حتى أخرجوا المسلمين عن شريعتهم وعقيدتهم واضطروهم إلى التحاكم إلى الطاغوت الذي يُسَمُّونَهُ بالقانون، وقد أُمِرُوا أن يكفروا به.

4-إن كل واقِعة لا تخلو عن حكم الله تعالى إما منصوص عليه أو مستنبط بوجه من وجوه الإستنباط، والشريعة الإسلامية إنما صلحت لكل زمان ومكان وكانت خاتمة الشرائع الإلاهية وأتمها وأكملها بما حوته من قواعد عامة، وضوابط كلية مع ما أوتيه علماؤها من قوة الفهم في نصوصها ومعرفة مقاصدها : بالقياس والإستصحاب وأنواعهما إلى غير ذلك مما خصت به هذا الشريعة الغراء.

>اللَّهُ وَلِيُّّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَالَّّّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّّّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ< البقرة 256.

والله ولي التوفيق.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>