الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : صِمام الأمان في حياة الأمة


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : صِمام الأمان في حياة الأمة
لقد سال حبر غزير وتجمع ركام هائل في وصف مظاهر الاختلال والضعف -التي أصبحت لصيقة بواقع الأمة الإسلامية لاتنفك عنه- وفي محاولات تشخيص الداء وضبط العلل التي تكمن وراء وضع مأزوم يعد أمرا شاذا بالنسبة لأمة أنيطت بها وظيفة الخلافة في الأرض والشهود الحضاري على الإنسانية جمعاء. وإذا كان الدارسون والباحثون -الذين نذروا حياتهم ووهبوا عصارات أفكارهم لهذه القضية المقدسة- قد حللوا واقع الأمة المتخلف من جوانبه المتعددة، وقاموا بتصنيف عوامل الأزمة ورصد أسبابها بحسب كل مجال من مجالات الحياة المتنوعة، فإننا نستطيع أن نقول بكل اطمئنان ويقين، بأن كل تلك العوامل والأسباب تتركز في بؤرة واحدة وسبب مركزي، هو غياب أو تعطيل وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حياة المسلمين. وحتى يكون الحكم على قدر من الموضوعية والاتزان، أقول، إضعاف تلك الوظيفة وتقليص مفعولها في الواقع.

وإنه بإمكاننا الاقتناع بأن هذه العملية الاختزالية، بعيدة كل البعد عن التعسف، ويظهر ذلك جليا إذا أدركنا بأن مفهوم كلمة “المعروف” تتسع دلالاته لتشمل كل مبدأ أو فكرة أو سلوك أو خطة من شأنها أن ترتقي بحياة المسلمين وتبلغ بهم إلى أعلى مقام وأشرف وضع يليق بمركزهم في هذا الكون، وأن مفهوم المنكر تتسع دلالاته لتشمل كل فكرة أو خطة أو نمط من أنماط السلوك، يؤدي بالإنسان إلى الإسفاف والإنحطاط. وبالأمة الإسلامية إلى فقدان معقد عزها ومناط خيريتها، إذ أن هذه الخيرية رهينة في ثبوتها للأمة الإسلامية بتحقيق شروطها مصداقا لقول الله تعالى : >كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله< (الآية 110 من سورة آل عمران). لقد شكل تطبيق هذا المبدأ في عصر النبوة والخلافة الراشدة حصنا منيعا ضد عوامل التآكل والفساد، مما حفظ للمجتمع تماسكه وقوته ومنحه قدرة فائقة على النمو والتطور إلى الأفضل والأرقى، ووفر له شروط الإبداع والعطاء الخصب. ولم يكن ذلك بالأمر الغريب، بل كان ثمرة طبيعية منسجمة تمام الإنسجام مع سنن الله في قيام الحضارات وتألقها، وجزاء وفاقا لتجسيد مبدأ الحاكمية لله عز وجل بكل مقتضياته وظلاله.

إن من باب النافلة إعادة القول بأن أقصى طاقة من طاقات الإبداع وأعلى معدل من معدلات الإنتاج العلمي والمادي، وأرفع مستوى للسمو الأخلاقي والإنساني، إنما تتحقق وتحصل في ظل شريعة القرآن السمحة ومنهجه القيّم، لأن الفطرة الإنسانية لا تجد استواءها وانطلاقها واستجماع قوتها إلا في إطار تلك الشريعة وفي رحاب ذلك المنهج. ü إن إهمال مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانهياره في حياتنا المعاصرة أدى إلى اتساع رقعة التآكل الحضاري، نظرا لاتساع الخرق في جسم الأمة الذي أصبح في حالة من الوهن أورثته عجزا ذريعا في جميع الميادين فصرنا أمام ساحة تموج بالمنكرات التي تعربد في حياتنا بدون رَادِع، فتحيلها إلى جحيم مستعر وشقاء مقيم. فمن منكر “تربوي” إلى منكر سياسي، إلى منكر “ثقافي”، إلى منكر اقتصادي واجتماعي إلخ. فكيف ينتظر من عجلة مجتمع تحاصرها تلك الأغلال الرهيبة ان تتحرك وتدور؟!

وجدير بالبيان أن ضعف وازع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي استشرى كالوباء في أوساط الناس، أمييهم و”مثقفيهم” على حد سواء، وتغلغل في بنائهم النفسي، قد تسرب إلينا مع الغزو الثقافي الغربي في سياق النزعة الليبرالية التي تقوم على أساس مفهوم مشوه للحرية، وعلى خلفية فلسفية تمجد الفردية الجامحة وتتخذ منها مبدأ مقدسا وحقا أساسيا من حقوق الإنسان. وقد ظل ذلك الضعف يتفاقم باستمرار حتى عبر عن نفسه في صياغات شعبية من قبيل >كل شاة تتعلق من كراعها< وهي صياغة تحمل روح اللامبالاة والعدمية والاستقالة من معترك الحياة وتجاهل ما يجري فيها من خير يستدعي الدعم والمؤازرة، وشر يستلزم المحاربة والإستئصال.

ولابد هنا ونحن نقوم بإرجاع جذور ضعف وازع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى آثار الفكر الليبرالي، أن نشفعه بتحفظ مفاده أن ذلك الفكر الليبرالي لم يلغ حس النقد الإجتماعي عند الغربيين، ولم يتلف لديهم الإحساس بالمسؤولية تماما، بل بقي ذلك الحس حيّاً نابضا إذا تعلق الأمر بمجالات معينة كالمجال السياسي والمجال القانوني في ارتباطهما بالرؤية الفلسفية الغربية التي تلغي جانب الروح والغيب والجزاء الأخروي من حسابها. وهو ما يستتبع انسلاخا من الضوابط والقيود على مستوى السلوك، الأمر الذي يفضي بنا إلى القول بأن ما يقع في الغرب من تفلت وفوضى، هو من مقتضيات رؤية الغرب للكون والحياة والإنسان. أما تلاشي الإلتزام بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في دنيا المسلمين فقد كان نتاجا وبيلا للخلخلة الفكرية والإفساد الثقافي الذي تعرضت له الأمة الإسلامية، والذي نتج عنه سقوطها في العجز عن المواكبة النقدية حتى للجانب الذي نجح الغربيون في تنظيمه وإخضاعه لمراقبة صارمة عبر القوانين المستندة إلى وعي أفراد الأمة السياسي والاجتماعي، وهو أمر يعبر عن التدهور الفظيع الذي تتردى فيه أمة تنسلخ من مرجعيتها الحضارية وتلقي بمصيرها وتسلم مقاليدها إلى غيرها من الأمم.

إننا عندما نعقد مقارنة بين نوعية الفرد والمجتمع في عهود الالتزام الشامل والراسخ بالإسلام من جهة، وبين نوعية الفرد والمجتمع في عهود الانحطاط والانسلاخ الحضاري، تبرز أمامنا حقيقة الهوة الحضارية التي تفصل بين النموذجين، والارتداد الثقافي الذي تعيشه الأمة الإسلامية في الأزمنة الحديثة. انظر مثلا إلى موقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه، واستمع إليه إبان توليه الخلافة وهو يقول : >أيها الناس من رأى منكم فيَّ اعوجاجا فليقومه< واستمع إلى أحد البسطاء من عامة المسلمين، وهو يرد عليه بكل ثقة واطمئنان : >والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا<(1) >هذا الحوار الرائع كان يعكس بشكل عجيب وحدة الفكر والدوافع والعواطف التي كانت تحكم سلوك الخليفة والبدوي البسيط. وعمر بن الخطاب كان يتجه بخطابه في تلك اللحظة إلى مجتمع له منظومة خاصة من القيم تغلغلت في نفوس أفراده واختلطت بدمائهم فولدت نمطا من الفكر والسلوك<(2) وينقل لنا التاريخ الإسلامي حتى في العصورالتي كان قد بدأ يدب فيها الوهن إلى أوصال الأمة، صورا مشرقة عن التجاوب الذي كان قائما بين العلماء والحكام، حيث كان هؤلاء يستنصحون أولئك، وكانت جلودهم تلين وقلوبهم تخشع لنصائح العلماء، إلى درجة تفيض معها مدامعهم وتخضل لحاهم بالدموع، فقد كانت جذوة الإسلام لا تزال متقدة في الصدور، ولم تكن المرجعية الثقافية الإسلامية قد فقدت سلطانها يومئذ على النفوس. أما اليوم وقد تسمم المناخ الثقافي، واختلطت منظومة القيم وأصابها داء التهجين، فقد سقطنا فيما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وقوع الاختلاف في صفوف المصلين. قال عليه الصلاة والسلام : >لتسون صفوفكم أو ليُخالفن الله بين قلوبكم<(3)

واستنادا إلى القياس أقول : إن وقوع الاختلاف والتضارب في المرجعيات الثقافية بين أفراد الأمة وفئاتها، قد أدى إلي اختلاف بين هؤلاء في الموازين التي توزن بها أمور الحياة وقضاياها. وقد انعكس ذلك بشكل مدمر على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي ينبثق من المرجعية الإسلامية الثابتة التي تحدد طبيعة كل من المعروف والمنكر، وتوفر الضوابط والأدوات المنهجية التي تمكن العلماء من استنباط الأحكام المواكبة لحركة الحياة في ضوء الكليات التي يتمحور حولها الشرع الحكيم والتي تستهدف صلاح المجتمع وسلامته وسعادة الفرد في الدنيا والآخرة.

إن استمرار الوضع الثقافي والفكري للأمة في التردي، لابد أن تنجم عنه تحولات غريبة في عقلية الأفراد. ويعد هذا التطور من مقتضيات سنن الله عز وجل في الإجتماع البشري، إذ أن أي مرض من الأمراض، لايمكن أن يقف عند درجة معينة يجمد فيها. إن إهمال ذلك المرض وعدم المبادرة الفورية إلى علاجه واستئصال أسبابه، يترتب عليه لا محالة، زيادة في درجة المرض وتوالد أمراض أخرى. وهذه الحقيقة هي التي شخصها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد أحاديثه الشريفة، حيث يخبر صلى الله عليه وسلم أمته ويحذرها من الانتكاسة الشنيعة التي ستؤول إليها من جراء تخليها عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذا التفريط في هذا الركن سيُفضي لا محالة إلى مستوى من الإسفاف والإنحطاط النفسي أشنع من سابقه، عندما يرى أفراد الأمة المعروف منكرا والمنكر معروفا، ولا يقف التردي عند هذا الحد، بل يتفاقم ليبلغ حالة أشد وأنكى عندما يقدم الأفراد والمؤسسات والأنظمة على الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف دون أدنى حياء أو إحساس بالذنب، بل -وأكثر من ذلك- بصفاقة وتبجح يكشفان عن الحالة المأساوية  التي يمكن أن يصل إليها وضع الإنسان عندما يتحلل من القيود والضوابط ويمعن في اتباع شهواته ومسايرة أهوائه الشيطانية.

وإذا كان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم قد أبدوا تعجبهم لما أنبأهم به عليه الصلاة و السلام، نظرا لأن بيئتهم الثقافية والاجتماعية كانت طاهرة، ونفوسهم متشبعة بعقيدة الإسلام وقيمه، وهواهم تبعا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أفراد المجتمع الإسلامي ومؤسساته قد قطعت أشواطا خطيرة في إقامة التطبيع بينها وبين مستويات التعامل مع المنكر، فها نحن نرى قطاعات واسعة من أمتنا تعيش حياة سائمة بلهاء، تأخذ المناكر بتلابيبها وتحاصرها حيثما حلت وارتحلت، ولا تحرك ساكنا! وها نحن نشاهد بين ظهرانينا جموعا خضعت لانقلاب نفسي رهيب، انقلبت معه الموازين في نفوسها، فأصبحت ترى الحياة مقلوبة والقيم معكوسة فالخير عندها شر والشر خير والرذيلة مستحسنة والفضيلة مستهجنة فوضعها أشبه ما يكون بوضع كائنات المستنقعات بل أضل سبيلا.

وأفظع من ذلك كله، ها نحن نرى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتحول أهله إلى غرباء ينعتون بنعوت غريبة ويرفع النكير عليهم ويقع التواصي باستئصالهم وإسكات أصواتهم بشتى الوسائل، وتجند الأجهزة الرهيبة وتوظف أخطر الأساليب النفسية لمخاطبة النفوس وإقناعها بارتكاب المنكر وإتيانه بدون أدنى حرج.

خاتمة :

ولئن كانت الأمة الإسلامية قد ارتكست إلى هذه الوهدة الخطيرة، فإنها لا يمكن أن تسلم نفسها كلية إلى قوى الشر والبغي المتربصة بالإنسانية، لأن العناية الإلهية أودعت فيها خمائر الخير والصلاح، وزودتها بكتاب الهداية، وحبتها بطائفة تستمر على طريق الحق تذود  عن حياضه وتدعو إلى رحابه، فتواجه بذلك جحافل الظلام وتتصدى لفلول الفساد، موقنة بأن الإنسانية لابد أن تعود بعد التيه والشرود، إلى دوحة الإسلام، تستظل بظلالها من لفح هجير الجاهلية وتتداوى من لسعاتها القاتلة. وإن خير دليل على أن هذا العهد قد بدأت تباشيره هو هذه الصحوة المباركة التي هبت رياحها المباركة التي تجوب أرجاء المعمور محمَّلة بأمطار الخير وعوامل الخصب، جارفة كل الخشب المسندة والأعجاز الخاوية التي لا يمكن أن تحبس مسيرة الإنسانية في جهادها نحو التحرر من أغلال الشر والفساد والاصطلاح مع الله عز وجل.

الهوامش : (1و2) مالك بن نبي – مشكلة الثقافة ص 70 – 71

(3) أخرجه البخاري ومسلم.
د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>