ماذا يعني إطلاق سراح شيوخ جبهةالإنقاذ؟
إطلاق سراح قادة جبهة الإنقاد في الجزائر جاء متأخرا جدا، الأمر الذي يعطي انطباعا قويا بأن اتخاذ القرار كان أمرا بالغ الصعوبة، وأن الذين حسموه على ذلك النحو وجدوه >شرا< لا مفر منه! من هذه الزاوية فإننا نذهب إلى أن القرار لم يتخذ إلا بعد أن أصبحت الجزائر على شفا الإنهيار الكبير، حيث لم ينجح الجيش طيلة الثلاثين شهراً المنقضية في استعادة الإستقرار للبلاد. وقد لاحت بوادر ذلك الإنهيار في الآونه الأخيرة، حين تسربت إلى الصحف بعض تفاصيل الكارثة التي حلت بالجزائر منذ ألغيت نتائج انتخابات ديسمبر (كانون الأول) عام 91. فعرفنا لأول مرة أن عدد القتلى وصل إلى 11 ألفا، وكان الرقم المتداول لا يتجاوز أربعة ألاف وأن 400 مدرسة دمرت تماما، وأن المصانع الكبرى توقفت عن العمل وأن الغابات أحرقت، وأن التقدير الأولي للخسائر الإقتصادية يرى أنها لا تقل عن مليارين من الدولارات.. وحسبما تقول الصحف الفرنسية فإن ما خفي كان أعظم. وهذا الذي >خفي< أشارت إليه صراحة صحيفة >لوموند< في الأسبوع الماضي، وقالت أنه يتمثل في أعمال العنف والقسوة التي مورست على الجانبين، جانب السلطة وجانب الإسلاميين، وقد سلطت الأضواء على الشق الأخير بينما جرى التعتيم على الشق الأول الذي اشتمل على ممارسات لم تعرفها الجزائر حتى في عهود الإحتلال، وشملت التعذيب المنظم وتنفيذ أحكام الموت وعمليات القبض الجماعي على الشباب وإيداعهم في معسكرات أقيمت بمناطق صحراوية تبلغ حرارة الظل فيها 50 درجة مئوية >تموت فيها العقارب<. ذلك فضلا عن تدمير المساجد وضرب الجماهير بالقنابل واستخدام النابالم ضدهم، حتى ذكرت > لوموند< أن عنف السلطة في الجزائر وصل إلى حد الجنون، كما أن عنف الجماعات الإسلامية المقاتلة ضد الحكومة اتسم بقسوة لانظير لها.
إزاء ذلك لم يكن هناك مفر من اللجوء إلى الحل الأخير، الذي قاومه طويلا دعاة الحسم العسكري في قيادة الجيش، من المحسوبين على >حزب فرنسا<، الذين يؤمنون باستحالة التعايش مع الإسلاميين وما برحوا يرفعون الشعار : اما نحن واما هم!
بسبب من ذلك، فإنه إذا قيل إن شيوخ جبهة الإنقاذ سيواجهون مشكلة في السيطرة على الوضع الإسلامي الذي انفلت عياره، فإن الطرف الآخر يواجه مشكلة موازية من جانب مراكز القوى العسكرية الرافضة للتعايش مع الإسلاميين، والتي حركت الإنقلاب على العملية الإنتخابية من البداية.
لا ينسى في هذا الصدد أن هناك قوى أخرى عدة حريصة على تفجير الموقف واستمرار اشعال الحريق في الجزائر، وان هذه القوى التي تضم اخلاطا من >المافيات< الاقتصادية والسياسية ودعاة العنصرية والمستوطنين السابقين، لن تتورع عن اللجوء الى كل ما قد يخطر أو لا يخطر على البال لتنفيذ مرادها، وان اقتضى ذلك عقد صفقات مع بعض الجماعات المسلحة المنسوبة إلى >العمل الاسلامي، لسفك المزيد من الدماء واشاعة اكبر قدر ممكن من التوتر والترويع. والأمر كذلك، فرغم ارتياح الجميع للافراج عن بعض شيوخ جبهة الانقاذ، فإننا لا نريد ان نتعجل في التفاؤل أو الاطمئنان الى احتمالات الانفراج، لان المسألة غدت الآن اعقد بكثير مما كانت عليه قبل ثلاثين شهرا، وغاية ما يمكن ان نقوله في وصف عملية الاطلاق انها خطوة صحيحة على طريق الألف ميل!
وارجو الا يحمل هذا الكلام على محمل اليأس أو التشاؤم، فضلا عن انني لست ممن يؤيدون قول البعض ان الاطلاق تم >في الوقت الضائع< فقد تعلمنا انه لا وقت ضائع في السياسة، التي تختلف معادلاتها عن قوانين مباريات كرة القدم. اذ يظل القرار الصحيح مطلوبا في كل وقت، ليس فقط لأسباب مبدئية واخلاقية ولكن ببساطة لانه إذا لم يسهم في اصلاح الغلط فإنه في حده الادنى يقلل من احتمالات التمادي او الاغراق فيه، باعتبار ان كل تقليل للخسائر هو >مكسب< ينبغي الحرص عليه. ليست بعض عناصر الداخل وحدها التي لم تسعدها هذه الخطوة، وانما هناك أطراف خارجية تضامنت معها في ذلك الشعور، إذ ليس سرا ان بعض الانظمة العربية المشتبكة مع الحالة الاسلامية والرافضة الاعتراف بها، كانت دائما في صف الحسم العسكري وضد الحوار مع جبهة الانقاذ. ومن ثم فإن أي حل يتم من خلال مشاركة الانقاذيين في الحوار او في السلطة، من شأنه ان يسبب حرجا لها، لانه سيدلل على خطأ موقفها من ناحية، ثم إنه سيشكل عنصر ضغط عليها لكي تعدل عن حلولها الامنية وتفكر في الحلول السياسية. على صعيد آخر فإن ذلك التطور لابد ان يكون له صداه في فرنسا التي ألقت بثقلها السياسي إلى جانب السلطة الجزائرية طيلة الثلاثين شهرا الماضية، وقد تحدثت >نيوزويك< في الأسبوع الماضي عن تأثير الموقف في الجزائرعلى انتخابات الرئاسة الفرنسية المقررة في الربيع المقبل، مشيرة إلى ان اليمين الفرنسي يتمنى ان يظل التوتر في الجزائر مستمرا حتى ذلك الحين، لأنه يعني ان فرصته ستكون اكبر في الحصول على أصوات الناخبين، ومن ثم فإن أي انفراج في الأزمة سوف يقلل بصورة نسبية من تعلق الناس باليمين واحتمائهم به، وسيضعف بالتالي من أصواته المرتقبة في الانتخابات. بقي ان ننبه الى ان قرار اطلاق شيوخ الانقاذ له اكثر من مغزى ومدلول يجدر بنا ان نتأمله في اللحظة الراهنة، لاننا ونحن نتطلع الى المستقبل، لا نستطيع ان نغض الطرف عن عبرة ما مضى، ليس فقط لكي نثري تجاربنا وخبراتنا، ولكن أيضا لأن مسلسل العنف السياسي لا يزال عرضه مستمرا في دول أخرى، وفي حصاد التجربة الجزائرية الكثير الذي يفيد الآخرين، ويجنبهم بعض الشقاء الذي تعرض له بلد المليون شهيد.
من أبرز دلالات ودروس التجربة الجزائرية ما يلي :
- ان العنف ليس سبيلا الى حل الخلافات السياسية، ولكنه منزلق خطر يؤدي الى مزيد من العنف، ويغدو حصاده مدمرا للجميع وللوطن معهم. ولئن بدا حينا من الدهر ان الحل الامني كفيل باسكات المخالفين، او ان القوة قادرة على القمع ومن ثم الحسم، فان ذلك سيظل نوعا من الوهم المخدر، الذي لن يلبث ان يزول لكي يفيق الجميع على الحقيقة المرة، وهي ان العنف ولد مرارات جذرت الخصومة واستنفرت عناصر المقاومة واشر.
- انه لابديل عن الحوار لحل تلك الخلافات، وكل تأخير لذلك الحوار يؤدي الى زيادة العقبات التي تحول دون تحقيقه نتائجه المرجوة، وليس بوسع طرف ان يحدد شروطا مسبقة في من يحاوره طالما أنه ارتضى اللجوء الى ذلك الأسلوب. اعني ان الحوار ينبغي ان يتم مع كل طرف مستعد له وقابل بنتائجه، ووضع الشروط المسبقة واللجوء الى الاستبعاد استنادا الى عدم الامتثال لتلك الشروط، هو من قبيل التنطع السياسي، الذي يقوض فرصة الحوار وفرصة الحل.
- ان الحالة الاسلامية صارت حقيقة مستقرة في الواقع العربي والاسلامي، لاسبيل الى تجاهلها او الالتفاف حولها، وقد اصبح قبول تلك الحالة ضمن الخرائط السياسية الراهنة أمرا لا مفر من حدوثه، عاجلا أم آجلا، والتبكير باستيعابها لم يعد عنصرا مساعدا على الاستقرار السياسي في الحاضر فحسب، وانما صار مفيدا للمستقبل ايضا، باعتبار ان الاستيعاب يؤدي الى تقويم مسارها وتهذيب مسلكها، وترويض عناصرها التي يظن البعض انها غير مهيأة للنجاح في اختبارات الممارسة الديمقراطية ولعلنا لسنا بحاجة لان نقرر أن نمو الحالة الاسلامية في إطار الشرعية أسلم وأفضل بكثير من نموها خارج ذلك الاطار، حيث مخاطر ذلك الاحتمال الاخير كثيرة، وقد لمسنا اثار بعض منها خلال السنوات الأخيرة.
- والأمر كذلك، فإن الذين دعوا من المثقفين الى >ديموقراطية الاستثناءات< او ديموقراطية >الخطوة خطوة<، لم يخدعوا فقط الأنظمة التي تصوروا انهم يخدمونها بتنظير اجراءاتها وتبرير لجوئها الى نفي واقصاء التيارات الاسلامية، وانما هم ايضا خانوا اماناتهم كمثفقين، واختاروا ان ينضموا الى مواكب النفاق وحملة المباخر، فيما تخلوا تماما عن قيم المشاركة الديموقراطية التي انتحلوا الدفاع عنها.
- ان بعض الضرر الذي قد ينشأ عن الالتزام بقواعد اللعبة الديموقراطية، اقل كلفة بكثير من كم الضرر الناشىء عن
تتمة الموضوع في ص 7
غياب الديموقراطية تماما، ورغم ان جبهة الانقاد حوكمت بالنوايا وأدينت قبل ان تتحمل اي مسؤولية سياسية في البلاد فان أسوأ الاحتمالات التي كان يمكن ان تنشأ عن توليها السلطة، اذا ما تم لها ذلك، يظل اهون من الكارثة التي حلت بالجزائر وأدت الى مقتل 11الف شخص وتدمير مرافقها واقتصادها.
- ان جوهر الصراع ليس بين ما سمي بالاسلام السياسي والقوى العلمانية، وانما هو في حقيقته صراع بين مشروعين حضاريين مختلفين، أحدهما عربي وإسلامي مستقل، وآخر ملحق وتابع للغرب، ان شئت الدقة فقل انه صراع بين الاستقلال والتبعية. وقد تكفلت التجربة الجزائرية باعلان ذلك الفرز صراحة. حيث وقف في صف الاستقلال كل دعاة الاسلام والعروبة، وفي المقدمة منهم جبهة الانقاذ وجبهة التحرير، وكان هؤلاء هم >حزب الجزائر< الحقيقي والاصيل. بينما وقف في الطرف المقابل فصائل الشيوعيين وغلاة العلمانيين والمتفرنسين ودعاة العصبية البربرية، ممن عرفوا في الشارع الجزائري باسم >حزب فرنسا<
- ان الدول الغربية، وفرنسا في المقدمة منها، غضت الطرف عن الانقلاب على العملية الديموقراطية في الجزائر، وبذات القدر فانها غضت الطرف عن جميع انتهاكات حقوق الانسان التي مارستها السلطة هناك، اعني انها ابدت استعدادا مفجعا للتخلي عن اهم القيم التي تدافع عنها، حين لاح في الافق ان الاسلاميين على وشك تولي السلطة في الجزائر، وعندما طال أمد الصراع وأدركت تلك الدول ان السلطة في الجزائر عاجزة عن السيطرة على الموقف، بدأت الاصوات تعلو في أوروبا داعية الى الحوار وقرأنا أخيرا أن العواصم الغربية أبدت ارتياحا لاطلاق سراح شيوخ الانقاذ، وهي التي كانت قد أبدت من قبل >ارتياحا< مماثلا لدى اعتقالهم وحظر نشاط جبهة الانقاذ!
إن الدروس كثيرة لكن السؤال هو : من يتعلم ويعتبر؟
عن الشرق الأوسط ع 5774