التنمية الثقافية والبناء الحضاري
تعتبر التنمية الثقافية والفكرية مفتاح أي بناء حضاري لمالها من دور في تحريك همم الشعوب ودفعها للبناء والعطاء.
فلا يمكن أن نتصور حدوث إقلاع حقيقي دون تغيير ما بالأنفس من أمراض اجتماعية وفكرية وتنقيتها من رواسب الإستعمار >والقابلية للإستعمار< وتغذيتها بالغذاء الإسلامي حتى تعيد عافيتها وقوتها تماماً، كما لا يمكن أن نعول على إنسان مريض للقيام بعمل ما فقبل أن نعطيه الفأس لابد من تخليصه من الآلام التي يعاني منها وتغذيته بالأدوية المناسبة بالقدر المناسب وفي الوقت المناسب. أليست الأمية من الآلام الإجتماعية التي تحتاج إلى مسكنات مستعجلة قبل أن نعول على هذا المجتمع؟!.
أليس التغريب والتبعية العمياء من مظاهر السقم والعجز عن الحركة والبناء السليم؟!. أليست ثقافة >التطبيع< والخرق الأخلاقي والإجتماعي والإقتصادي… >فيروسا< خطيراً قد يفقد المجتمع مناعته الأخيرة إذا لم نبحث له عن مضادٍّ فعَّال نستمده من الأبعاد الإسلامية الروحية الأخلاقية والإجتماعية؟!.
إن المتأمل في السيرة النبوية يدرك القاعدة المتينة التي صنعت أمجاد الحضارة الإسلامية ويعرف كيف أن التجربة الأولى لم تكن بُعْداً من خيال بل كانت تجسيداً حقيقياً لقاعدة التغيير ودرساً في البناء الحضاري. فلم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم رجلا >عادياً< بل كان >طبيباً< يعرف كيف يتعامل مع المجتمع المريض (المجتمع الجاهلي) وكيف يخلصه من آلامه ومعاناته ويمده بالأدوية الجديدة حتى يستعيد عافيته ونشاطه.
ف>اقرأ< التي كانت أول ما نزل على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حقيقتها إعلان عن ثورة ثقافية تهدم صرح الجاهلية وتبني الأسس الأخلاقية والروحية والإجتماعية التي أسست وأخرجت الأمة المثالية
ولم يكن هذا الإعلان >جافا< بل كان مربوطاً بالله سبحانه وتعالى >اقرأ باسم ربك الذي خلق< وهذا الربط دلالة على عمق البعد التوحيدي الذي يشكل أساس الرسالات السماوية.
لقد انطلق الرسول صلى الله عليه وسلم بعد >إعلان اقرأ< إلى مدرسة الأرقم بن أبي الأرقم لبناء الإنسان الرسالي والقوي كشرط أساسي لرفع اللواء الإسلامي. ويتمثل هذا البناء في تصحيح التصورات والأفكار والعادات الجاهلية وتعويضها بالأفكار والأخلاق الإسلامية.
إن مدرسة الأرقم بن أبي الأرقم لم تكن مدرسة للتخمة الفكرية والثقافية التي اشتهر بها الشعراء العرب بل كانت تأسيساً للفعل والعمل والإبداع والعطاء وتجسيداً للقيم الإسلامية السامية، لهذا وجدنا الصحابي الجليل يكتفي بعشر آيات بينات يحفظها ويفهمها فهماً دقيقاً لينزلها إلى أرض الواقع، لأن الدعوة الإسلامية لم تكن آنذاك في حاجة إلى الإنسان المتورم بمعلومات لايفعل بها شيئا في أي موقف عملي >كمثل الحمار يحمل أسفاراً<.
ولم تكن مدرسة الأرقم بن أبي الأرقم >زاوية لتخريج الزهاد< والإنطوائيين الذين يستكينون للواقع الجاهلي بل كانت قلعة لتخريج القادة والدعاة الذين صنعوا الحضارة حقاً.
ومن الشواهد على ذلك الإقلاع الذي أحدثته مدرسة الأرقم بن أبي الأرقم الهجرة النبوية : إن الهجرة في بعدها ليست محطة تاريخية في مسيرة الدعوة الإسلامية اقتضتها ظروف معينة بل تجسيد عملي وواقعي لما أحدثه >إعلان >اقرأ<< في تاريخ البشرية وأكبر دليل على القطيعة مع الجاهلية والتخلف والإقتناع بالفكرة الإسلامية والرغبة في الشهود الحضاري.
إن من أهم الأحداث التي تثير الإعجاب (حدث المؤاخاة) بين المهاجرين والأنصار خاصة في ظل التمزق والتشتت الذي يشكل أكبر هاجس يعوق مسيرة البناء الحضاري : إن فكرة المؤاخاة استراتيجية كبرى استطاع إعلان اقرأ تحقيقها، وأكبر تحد ثقافي اجتماعي استطاعت الدعوة الإسلامية تحقيقه إذ كان من الخيال أن نتصور حدوث هذا البعد الحضاري في ظل واقع كانت العصبية القبلية تشكل محركه الأساسي والعبودية غذاءه اليومي.
إن فكرة >المؤاخاة< إعلان عن نهاية بناء نسيج ثقافي اجتماعي أعطى مولوداً حضاريا سمي أمة >وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربُّكم فاتقون< الآية وبهذا المولود يبدأ التاريخ بمرحلة العزة والتمكين والنصر.
فهل نستطيع بلورة الاستراتيجية الثقافية والإجتماعية والمشروع البديل القادر على إعادة تشكيل الأمة الخيِّرة ويؤسس الفعل الثقافي الحضاري.
1- ثقافة لإعادة بناء الإنسان الرسالي.
2- ثقافة لإعادة بناء النسيج الثقافي الإجتماعي الإسلامي.
3- ثقافة تؤسس للتنمية الحضارية.
تلك هي رسالة وأمانة الدعاة والحركات والحكومات والشعوب التي تنشد غداً أفضل.