الأخوة أولاً وأخيراً


الأخوة أولاً وأخيراً

إن أي تجمع بشري، لكي يتأسس على حركته وطاقات أفراده مشروع حضارة إنسانية سامية المقاصد، لابد له من عنصر أساسي وقاعدة متينة عليها تركز دعائم هذا المشروع، هذا العنصر وهذه القاعدة الصلبة هي : الأخوة.

فالأخوة نعمة ومنة إلاهية، وإشراقة نورانية في نفوس المؤمنين يهبها الله تعالى لمن يشاء من عباده، هي أخوة تنبثق من الإيمان، فالإيمان شرطها والإعتصام بحبل الله أساسها، مصداقا لقوله تعالى (إنما المومنون إخوة) الحجرات 10] تحققت واقعا في حياة الناس ولم تكن أحلاما وخيالا في مدينة فاضلة، وذلك أيام الجماعة المسلمة الأولى في المدينة، وعليها قام منهج الله في الأرض وهي شرط لقيامه في كل زمان، يقول عزوجل في شأن هذه الجماعة الأولى وفي شأن أي جماعة تقتفي أثرها وتهتدي بهداها  (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم أياته لعلكم تهتدون)آل عمران 103]، نعمة الأخوة أوجدها الإيمان بالله وبوعده الصادق للمتحابين فيه، لم توجدها دواع أرضية من أموال ومصالح ومآرب، إنها واقع في النفوس يعجب المرء من فاعليته وقوته وخيريته، ومن هذا التجرد وهذا التواد والتراحم الذي ترحم فيه نفسه، يجعلها الخليفة الثاني “عمر بن الخطاب” -رضي الله عنه- أثمن منحة ربانية للعبد من بعد الإسلام فيقول : (ما أعطي عبد بعد الإسلام خيراً من أخٍ صالح، فإذا رأى أحدكم وُدّاً من أخيه فليتمسك به)الرقائق لمحمد أحمد الراشد ص 72] ويجعلها التابعي “مالك بن دينار” من عناصر روح الدنيا، فيقول (لم يبق من روح الدنيا إلا ثلاثة : لقاء الإخوان والتهجد بالقرآن وبيت خالٍ يذكر الله فيه)الرقائق لمحمد أحمد الراشد ص 72].

إنها نعمة تطهر النفس وتؤنس الروح وتحفظ الإيمان وتزيد فيه، تطرد أسباب الشر وتجلب أسباب الخير، وخير اخوانك أخ صالح يعاونك في دين الله وينصحك في الله لأن أي عقد لابد له من آثار تترتب على الناس بمجرد انعقاده، كما يقول الفقهاء، ومن آثار عقد الأخوة التواصي بالحق والتواصي بالصبر، لذلك كان الاثنان من السلف الصالح لايفترقان حتى يتلو الأخ على أخيه سورة العصر كاملة، وفي هذا يقول “الحسن البصري” رحمه الله : (اخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا واخواننا يذكروننا بالآخرة)إحياء علوم الدين : 2/176].

الأخوة ضمان للوحدة :

عندما تسود المحبة المجتمع فما أقوى وأسرع قابلية أفراده لدعوة الوفاق والالتحام والتوحد، لأنها القاعدة النفسية المنيعة والعقد الشرعي الصحيح الذي يتأسس عليه البناء، فالأخوة هي العمدة والاساس في وحدة الصفوص بها تحفظ وتدوم وترص، لأن ضمان وحدة الصفوف هو وحدة القلوب كما جاء في الحديث الشريف : >الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف وماتناكر منها اختلف<البخاري عن عائشة (ض)].

بهذه المعاني تَكَوَّنَ الصف الأول للدعوة وتَمَّ إعداده لحمل المسؤولية بايمان راسخ قامت عليه الوحدة، وهذا ماتخبرنا به السيرة الطاهرة فقد كان الرسول (ص) يستهدف، منذ أن حل في المدينة، إيجاد وحدة بين سكانها، تجعل منهم حصنا منيعا ضد أعداء الاسلام وبدأ بتوحيد صفوف المسلمين، ونزع الاحقاد من القلوب، فدعاهم جميعا إلى التآخي والمؤاخاة، وكان كل مسلم يؤاخي مسلما فكان هو وعلي أخوين، وكان عمه حمزة، وزيد بن حارثة أخوين، وتآخى المهاجرون والأنصار، إخاء جعل له الرسول (ص) حكم إخاء الدَّم والنسب بل أكثر من ذلك.

وكان عمل الرسول في توحيد صف المسلمين أوَّلَ خُطْوَة في تنظيم مجتمع يثرب، وبناء كيان الأمة، وسد الطريق على المنافقين في محاولاتهم الايقاع بين الأوس والخزرج، وبين الأنصار والمهاجرين، ووجد المنافقون أمامهم مجتمعا إسلاميا، لافرق فيه بين مسلم وآخركالجسد الواحد، يساند فيه القوي الضعيف، والغني الفقير، تسود جميع أفراده عواطف الحب المتبادل، والتعاون الصادق، والوفاء والإخلاص، والتضحية والإيثار<عصر النبوة والخلافة الراشدة : الدكتور لبيد ابراهيم احمد، ابراهيم غير سيف الدين ص 70/71].

وهكذا قامت الدعوة على أمتن أساس يقف في وجه الخطوب ويوفر عوامل الرقي والفوز والنجاح، لأن الوحدة هي أقرب سبيل إلى النصر والفلاح والتفرق والتنازع سبيل إلى الفشل وذهاب الريح، والله تعالى يحذر المؤمنين فيقول في كتابه العزيز (وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)الأنفال 47].

وبهذه الأسس والمعاني، يكون التجمع الإيماني هو المرشح على الدوام إلى الوحدة والائتلاف، لأن الاختلاف لامنفذ له إلى أهل الحق إلا إذا اندس بينهم أهل الباطل أو أهل الجهل والأهواء، لأن من طبيعة المؤمنين أنهم موضع عون وعناية الله (لو أنفقت مافي الأرض جميعا ماألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) وفي مقابل ذلك يظل التجمع الجاهلي الأرضي مرشحا دوماً للتقوض والتفرق، لأن من طبيعة الباطل أنه لايؤلف بين أهله (تَحْسِبُهُمْ جميعاً وقلوبُهم شَتَّى)سورة الأنفال 93].

وأخيراً، فإنَّ الأخوة نعمة، ومن واجب المسلم أمام النعمة المحافظة عليها والشكر عليها، ومن تمام الشكر على النعمة توظيفُها فيما يرضي الله تعالى، ومن تمام الشكر على نعمة الأخوة أن نجعلها سبيلنا إلى الوحدة، وللحفاظ عليها لابد من التزام خط الإيمان (إنما المؤمنون إخوة). فلا بديل لنا عن آصرة الأخوة كسبيل قوي لمواجهة تحديات الداخل والخارج في هذا العصر.

آفة الفرقة :

نعمة الأخوة لابد من الحفاظ عليها ككل نعمة يمن الله بها على عباده المؤمنين لأن الحفاظ عليها في خدمة الحق، وتحقيق مطلب الوحدة من الشكر على النعمة، لأنها كعقد لها من الأسباب مايبطلها ويحلها، لذا لابد للحفاظ عليها من التزام السير في خط الإيمان، فإنه شرطها وأمارتها.

إن شخصية المسلمين الحضارية تتجلى أول ماتتجلى في علاقاتهم فيما بينهم ومع غيرهم (الدين المعاملة)، وشبكة العلاقات الاجتماعية الرابطة بين أفراد المجتمع هي موضع هويته وشخصيته الثقافية، منها يبدأ التقدم إن التحمت خيوطها ومنها مبدأ التخلف والتفرق عندما ترتخي هذه الخيوط، فسبب فساد العلاقات طغيان الفردانية في المجتمع والأنانيات والعصبيات المنتنة، مع ضمور الوازع الاجتماعي والسلوك الجماعي المشترك الذي تظهر فيه معاني الحب والإيثار والتكافل، وتتحول الأمة من وجود اجتماعي حقيقي متكافل ومتماسك إلى أفراد، كل فرد يفكر في طعامه ولباسه ودار سكناه ولايفكر في الأمة من يفكر.

وهذا يعني أن المشكلة الأساسية التي تهدد البناء الأخوي بالانهيار هو تضخم الذوات وسيادة الانانيات التي تتولد عنها أوضاع التنازع والتعصب للقوم وللاشخاص والأفكار وهذا أكبر باب تدخل منه الفتنة ويحل الفشل ويعم الظلم والاستبداد.

والمشكلة في أساسها راجعة إلى غياب التربية، فبغياب التربية الايمانية والعلمية والاخلاقية والحركية، تنقاد النفس للهوى احد الثلاث المهلكات : هوى متبع وشح مطاع واعجاب كل ذي رأي برأيه كما جاء في مضمون الحديث.

إن الأنانية كغيرها من خصال التدسيّة كالاعجاب والغرور والشح والهوى والجهل والحسد هي صفات تتدخل لتدمير علاقاتنا مع اخواننا خاصة ومع المجتمع عامة، إن المطلوب منا أن نحول عواطفنا ومشاعرنا على ضوء الايمان إلى السبل البناءة عوض تركها بلا تربية نهبا للظن والهوى ومغنما للشيطان يسلك بها السبل الهدامة.

فلا مجال لاستنكاف العلم والتعقل، والتعصب للهوى، والمطلوب منا الاتجاه إلى فهم دقيق بمقاصد الاسلام وموازنة وتقدير للمصالح، ولن يتأتى لنا ذلك إلا بتركيز دعائم ثابتة في نفوسنا من العلم الغزير والثقافة الواعية.

فلا بديل لنا عن رابطة الأخوة، كسبيل قوي لمواجهة تحديات العصر، إن الاخوة واجب شرعي ومتعة نفسية يحسها الفرد المسلم ويتوحد عليها الصف المسلم في اتجاه إقامة شرع الله ونهضة حضارية تشهد فيها شبكة العلاقات الأخوية أقصى توتر وتلاحم.

فلا بد أن نحيي هذه المعاني الاخلاقية -نحن المسلمين، علماء ومتعلمين قادة واتباعاً- ولابد من تأكيد معنى الأخوة في النفوس كعنصر أساسي من عناصر الالتزام والتحرك والمواجهة وكدعامة أولى عملية التوحيد، وتحقيق النصر، فلا بد من منطلق قوي صحيح وذلك بترسيخ الإيمان وتعميق الأخوة، ونشر تقاليد الأخوة والتآلف عبر تربية راشدة، لترص الصفوف وتوحد وتستقيم ولاتتصادم في طريق الدعوة، مما يمكن من اكتساب القوة، التي أمرنا الله بإعدادها ففي ذلك سلامة النتيجة وحسن المصير ومن صحت بدايته صحت نهايته.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>