في ضرورة البدء بالسؤال : على أية أرض نقف؟
هَلْ يُمْكِنُ أَنْ تُفْهَم مُخْتَلِف المشاكل الراهنة في البلاد الإسلامية والعربية بمعزل عن تَارِيخِ هَذِهِ البِلاَدِ والسننِ التي تتحكَّمُ بِسِيَاقِهَا. أَوْ بمعْزِلٍ عَنْ مَعْرِفَة سِمَاتِ الذَّاتِ والإِنْسِية التي تَخْتَصُّ بِهَا، أَوْ بِمَنْأَى عَنْ فَهْمِ المَرَاجِعِ العَقِدِية والفِكْرِية والمَدَنية التي تؤْمِنُ بِهَا، أو بمنأَى عن الأَهْدافِ التي تراها مقصدَ وُجُودِهَا وعَمَلِها…
هَلْ يُمْكِنُ مناقشَةَ الرَّاهِنِ، بأوْزَارهِ وتَنَاقُضَاتِهِ، وَأَقْضِيَّتِهِ إذَا لَمْ نُنَاقِشْ المرجِعية والمنهج؟ وإِذَا لم نناقش القوانين والآليات التي تَحْكُمُ مسيِرة الوَعْيِ والتاريخِ والمجتمع؟
إنها الأسئلة الكبيرة الحرجة التي تختصر، في الواقع، صميم الإِشْكَالِ الجَوهَري، ومَحلَّ النِّقَاشِ الأَصْلي بين استراتيجيتين مُتَنافِسَتَيْن إِلَى اليوم :
- الأولى / تَمتَشِقُ سِلاَحَ التَّجْرِيحِ والهَدْمِ ضد القيم المحلية، والمؤسسات الخاصة بالأمة بدعوى العالمية، أو تحت شعار العقلانية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان (!!)
- والثانية / تقوم على ردِّ الاعتبار لتلك القيم والمؤسسات، وتَجْدِيد الالتزام بها، والانتماء إليها، والانطلاق من توظِيفها في مَشْرُوعَاتِ إِعَادَةِ البناء، ودعمها وتأكيدها في الفكر والثقافة والممارسة تقديرا بأنها المدخل الطبيعي اللازم إلى تحقيق إجماع داخلي، وتأسيس إرادة واعية متماسكة هي شرط الفعل الحضاري المبدع.
وبحسب المرء أن ينظر إلى ما تمور به المنطقة الإسلامية والعربية من انشطارات وانفجارات حتى يدرك الأبعاد المتعددة الناجمة عن تدافع الاتجاهين. وحسبه أن يتقرى ما ينشر اليوم من أدبيات سياسية وإبداعية واجتماعية ليلحظ مدى استقطاب سؤال : >عَلَى أَيَّةِ أَرْضٍ نَقِف؟< لأطراف الرأي والنِّقاشِ الدَّائِرِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ (أَزْمَةَ الوَعْيِ) هي أَقْسَى وأَمرّ مَا امْتُحِنت بِهِ هذه الأمة عَبْرَ تاريخها الطويل.
لعل من أَهَمِّ مؤَشرات هذه الأزمة ودلائلها في مجتمعنا الإسلامي اليوم الشعور الجماعي بالإحباط، والإحساس بفتور دوافع الحياة، وفقدان الأمن والطمأنينة، واجترار مشاعر القلق والفشل والقنوط من كل تغيير، والجنوح إلى تَسْيِيجِ النَفْسِ وسُلُوكِ العُزْلَةِ والانكماشِ، والتوجُّسِ مَنَ الغير والمستقبل، والتنصل من كل موقف إيجابي تُجَاهَ تحرير الواقعِ، لتَرتَكسَ الحياة بذلك إِلَى سِلْبِيَّةٍ مطْلَقَةٍ، واتِّكالية صارخة، ولِتَشِيعَ نزْعَةٌ مِنَ الشكِّ والتَّسفيه بِكُلِّ المُثُلِ، وبكل المبادئ الشاحِذَة للرُّوحِ، والباعِثَةِ عَلَى الأَمَلِ!
ومِن تَدَاعِيَاتِ هَذِه الأزمَة أيضاً القابليةُ للغَزْوِ، والتقبُّلُ النفسي للاغتراب، وتداول ثقافةِ الهزيمة التي تزَيِّفُ الوَعْيَ، وتُبَلْبِلُ اللسَان، وتُشَوِّشُ العَقِيدَة، وتُعطِّل الفِكر، وتنهِكُ الروُّحَ، بل تَذْهَبُ آثَارُ ثَقَافَةِ الهزيمة أَخْطَرَ مِنْ ذَلِكَ حِينَ تُعَمِّقُ أَخَادِيدَ الانْشِرَاخ بين أبناءِ المصِيرِ الواحد، وحين تَنجَح في هَدْمِ أُسُسِ >الوحدةِ الثقافيةِ< الجَامعَة بين أبناء الأُمَّةِ الواحِدة، لِتَجْعَلَهُم معسْكَرَاتٍ مُتَنَاحِرة، وفرقًا منقسمةً بين أَنْصَارٍ لِلْأَصِيل بلاَ مَصِيرٍ أو أنصار لِلْمَصِيرِ بِلاَ أَصِيل!!
ولسنا نغالي إذا قلنا : إِنَّ التاريخ الفكري للأُمَّةِ الإسلامية والعربية -منذ بداية القرن الحالي- يكاد يكون تاريخا لتقلب هذا المشكل وتطوره. فمنه -حتى اليوم- تنطلق كل المواقف التي يحدد كل فرد وكل تيار من خلالها موقفه من العالم أو من الحضارة أو من الدين أو من العلم أو من الدولة أو من المستقبل.
ومن ثم، نستبين ضرورة البدء بالسؤال : >على أية أرض نقف؟< وأولوية استعادة الأمة لوعيها الذاتي، واستئناف سياقها التاريخي على هذا الأصل، لأن ذلك يضعها موضع التناغم مع نفسها وتطلعاتها، والجماعة كالفردِ لا تستطيع أن تبادر إلى مشروعٍ مَا دُونَ أن تَعْرِفَ ذَاتَهَا، وتُحَدِّدَ مَكَانَ وُجُودِهَا، وشَرْعِيةَ دَوْرِِهَا، بمعنى لا مناص لها أن تتسلح قبل كل شيءٍ بِوَعْي ذاتي يكفل لها معرفة حُدودها وإمكاناتها وخصائصها وأهدافها ووسائلها وما تريد أن تكون عليه. وهذا الوعي -كما يقول علماء الاجتماع- هو أَرفعُ مَرَاتِبِ الوعي، ومُؤَدَّاهُ فَهْمُ القاعدة الحضارية والعقدية والروحية والعقلية التي يقوم عليها الوعي المجتمعي في البلاد الإسلامية. ومؤداه أيضا، الوعي الصحيح بالعالم، وبناءُ علاقاتٍ سليمة ومُتوازنة مع الغَيْرِ. فالوعي بالذات شرط الوعي بالتاريخ، لأنه هُوَ الذي يمنح الأمة الإحساس بالاستقلال والتميز عن الآخرين، فتفهم جيدا خِطَطَهُم ومَقَاصِدَهُم، وهو الذي يجعلها تَشْعُرُ بالحاجة الملحة إلى بناء ذاتها، وترتيب علاقاتها على أساس القيم والمسلمات التي تؤمن بها، فتحدث فيها دواعي الإنجاز والاجتهاد والإجماع والفعالية. إن ذلك فيما يبدو هو المدخل الوحيد الضامن لتجديد فعالية الأمة بمؤسساتها وأفرادها، ولإعادة انخراطها في النظام العالمي كمحور حضاري مستقل، وشريك قوي له اعتباره في صنع القرار.
فهذا الوعي هو بداية كل وعي، ومبدأ كل مبادرة وممارسة. وإن الخروج من أزمة الوعي وشقاقه وتمزقه هو الخطوة الأولى على طريق الخلاص من أزمة الواقع وتمزقه. ومن هنا، ليست أزمة الواقع الإسلامي العربي ترجع إلى أزمة مؤسسات، أو أزمة “برنامج”، أو أزمة إمكانات… بقدر ما ترجع في التحقيق إلى أزمة منهج، وأزمة وعي، وأزمة إرادة!
ومن هنا أيضا، لا يصح أن تعتبر الدعوة إلى تجديد الواقع بالإسلام هروبا من مُعَالَجَةِ الرَّاهِن، أو خَوفًا من المستقبل، أو احتفاءً بالماضي، أو اغتيالاً للعَقْلِ، أو اسْتِرْجَاعًا للذاكرة، أو عجزا عن رؤية مشكلات التطور ومُحْدَثَاتِه. بل بالعكس، إنه استردادُ الوعي الغائب والمستلب، وإنه الوقوف على الأرض التي تسمح لنا برؤيةِ الأشياء والمتغيرات رؤيةً منهاجية وموضوعية، والتفكير من جديد بالأزمة العصيبة التي طالت ذيولها، ودراسة وتقوِيمُ التجارب والرُّدُودِ التي قدمناها مند أكثر من قرن والانطلاق من رؤية التحديات الكبرى التي كبلت المجتمع الإسلامي دهورا طويلة. وهذا يستلزم -مما يستلزم- أن نُعِيدَ النَّظَرَ بِطَبِيعَةِ التدافع الحضاري القائم، وتحديد مجموع القوى الفاعلة فيه، وتحديد مجالاته وطرائقه ورهاناته ومراميه، وأن نعيد تقييم الذات بمراجعة قدراتها واستراتيجياتها وتوازناتها الداخلية على أساس استيعاب قوانين القوة والضعف، وعوامل الحركة والجمود وأسباب الوحدة والتفسخ، ودواعي التضامن والتنافر.
ولنا أن نستنظم من هذا، أن سؤال “عَلَى أَيَّةِ أَرْضٍ نَقِفُ؟< يرمي إلى مناقشة الأسس المعيارية والمنهاجية التي اتَّكَأَتْ عليها التجارب السابقة لإنجاز مشروعها النهضوي، وتقويم حصائد تلك التجارب في ناحية المكاسب والنقائص، وإعادة بناء الرَّدِّ الحضاري الجديد على أساس الوعي الكُلّي المنهجي الذي تحدثنا عنه آنفا، والذي من مقوماته : تحديد الأرض التي نقف عليها، ومراجعة بناء القوى الاجتماعية، وتحرير إرادة الجماعة وشَحْذِ أشواقها الروحية، وضمان تحالفها وإجماعها بهدف إحقاق حالة من التيار المجتمعي الفاعِل الذي يضع جماهير الأمة في موضع الإيمان باختياراتها، والتناغم مع ذاتها، وإرادتها من جهة، وفي موضع المشاركة الإيجابية التي تمكنها من استيعاب آليات الحضارة والإنتاج، واستعادة التحكم بزمام المبادرة من جديد.
إن هناك إجماعا يكاد ينعقد اليوم على أن حصاد العقود الماضية كان ضَحْلاً هَزِيلاً جِدًّا في قطاعات رئيسية من الحياة : “فلم يحصل أي تراكم نوعي وجدِّي لا في ميدان الخبرة الصناعية والتقنية، ولا في ميدان البحث العلمي التطبيقي” ولا في ميدان تأسيس البنية الاقتصادية التحتية، ولا في بناء الدولة الحديثة المعبرة عن إرادة الأمة ونمطها المستقل، ولا في حفظ كرامة الإنسان واحترام حقوقه الأصلية، ولا في مجال تعديل نظام القيم والسلوكات بما يتناسب والطموحات الحضارية للمجتمع، ولا في حماية حوزة البلاد وتعزيز وحدتها الداخلية، ولا في أقل من ذلك وأيسره من الأسبقيات والضرورات التي لا غنى لحياة الإنسان اليومية عنها بحَال (مشكلات الجوع والمرض مثلاً، مشكلة الأمية، أزمة النظافة والماء والكهرباء (!!) الخ). إنها خسارة شاملة على كل صعيد، ورحلةٌ من الضياع عمرت قرابة قرن لم تخرج منها الشعوبُ المُسلمة حتَّى بِبُلْغَتِهَا الضرورية مِنَ الغِذَاءِ والماء والمعرفة! وما ذلك إلا لأن معالجة مشكلاتِ هذه الشعوب واقتراح حُلُولِهَا ومَخَارِجِهَا كانت تتم دائما خارج الأرض التي تقف عليها، بالوقوف على أرض هذا التيار أو ذاك من تيارات الغرب أو الشرق. وهذا يعني -دون الوعي بذلك- الاصطدام مع الشعب والتقاطع معَ مدنيتِه وعقيدته وتطلعاته، والبدَهية التي يراد لها ألا تهضم حتى الآن أنَّ مقومات هذا الشعب الأساسية وبنيته الحضارية المستقلة ونمطه المعيشي وتشكيلته النفسية والروحية والثقافية كل أولئك نَبَتَ على أساس الإسلام، وانْبَثَقَ مِنْ سَنَاه، والتحم بلحمته وسداه!
لكن، بالأسف، يأبى الاتجاه التقليدي المتغرب إلا أن يجحد ويتعامى عن هذا القانون تارة باسم العالمية (عالمية الغرب) وتارة باسم شعار المجتمع المدني ودولة الإنسان وتارة أخرى باسم العلمانية والعقلانية والبقية تأتي. ويشهد الجميع أن مشروعات هذا الاتجاه وخطاباته ظلت منفصلة غريبة بنظر الشعب منذ البدء، عاجزة عن إحراز ثقته فضلا عن تحقيق إقناعه وتعبئته وتنظيمه وتجانسه. ذلك لأن مشروعات فراخ التقليد والتغريب لم تَزَلْ تَعْدِمُ اللغةَ المشتركةَ، والمبادئ المقبولة، والمراجع المدنية والمعيارية المخصوصة بهذه البلاد.
ختاما نقرر : إن تحديد الجواب الواضح على سؤال : “علَى أَيَّةِ أرض نقف؟” مرحلة استراتيجية ضرورية، لا يمكن لأي مشروع -من دون حَسْمِهَا- مُوَاجهة تحديات ومشكلات التنمية الاقتصادية والسياسية والمجتمعية والثقافية والتربوية في العالم الإسلامي. إن تحديد الأرض التي نقف عليها يعني ضمان إجماع سواد الأمة على البَذَل والاجتهاد للخَطِّ الذي اختارته واقتنعت به. ففي المعادلة ثلاث قضايامركبة تشكل في الأصل شرائط النهوض والعمران: الاختيار/التجانس- الإجماع/الوحدة.
- الفاعلية/الإنتاج.
إن استثمار هذه القوى الثلاث هو قاعدة الانطلاق لمواجهة مشاغل المرحلة الثانية : مرْحلَةِ اقتراح الحلول الملائمة، وتأسيس النظم الحضارية العملية لاحتواء مُعْضِلاَتِ الانحطاط التاريخي المعاصر. مما سيحتم على هذا الاجتهاد الذاتي بذل أقصى الجهود لاستيعاب مفردات الواقع ومتناقضاته، والارتفاع إلى أعلى مستويات الدّقّةِ والاستقامة في طرح البدائِل، وصياغة السياسات، وتحديد حجم الصُّعوبات والإمكانات والأولويات، وضبط المقاصد والنِّسَبِ. فلا جَرَمَ في أَنَّ هناك حاجة مُلِحَّةً إلى إِجَابَاتٍ سَليمَة حول كيفية تحرير أرض الأقصى. وتحرير القرار السياسي العربي، وكيفية تعديل ميزان القوى لصالح الكرامة الإسلامية في كثير من بؤر التوتر، وكيفية إنجاز مشروع التحديث والخلاص من نير التبعية المقيمة، وكيفية بناء دولة الشِّرْعَة و الشورى البقية في ص 7
تتمة موضوع على اية ارض نقف؟
والعدل، وكيفية احتواء تداعيات التجزئة والانقسامات القطرية والأهلية، وكيفية إرساء مؤسسات المجتمع المدني المتجانس مع ذاته، الذي يستطيع أن يوازن العلاقة بين الدولة والأمة، وينجح في استيعاب التقنيات الحضارية والإنتاجية.
فلا سبيل إلى خروج سوى بِتَرتِيب خطة استراتيجية واضحة تحدد من خلالها الإجابة على ما ذكرنا وما لم نذكر، أما الوقوف عند حدود الهَذْرِ بالكلمات، ولَوْكِ القول وإرساله، ودغْدَغَة مشاعر الأمة بِأَماني “الحقوق”.. مَعَ انغماس النخبة والأمة معًا في ممارسة فن التثَاؤُب، والاستغْرَاقِ في علاقَاتِ الاسْتِهْلاَك و “التقليد الحضاري”!! فتلك مُرَاوَحَةٌ كلامية وهزلية فارغة لا مستقبل لها، لن تشفي لنا داءً، ولن تقيم أَوَدًا، لأنها تتِمُّ على هامش التاريخ الفعلي، ولأنها تَفْتَقِدُ الصِّلَة الشرعية المطلوبة بالسياق، والمنهج، والجماعة، والوعي.
(ü)- أمانة العلم تفرض هنا أن نذكر أن صيغة عنوان المقال مقتبسة من مقال للأستاذ منير شفيق ضمن كتابه الفذ “الإسلام في معركة الحضارة” – دار الكلمة – بيروت – ط2 – 1983.