التقعيد الفقهي وأثره في فقه الدعوة وترشيد مناهجها (2)


التقعيد الفقهي وأثره في فقه الدعوة وترشيد مناهجها (2)

4 -  ضوابطُ منهجيةٌ في قاعدة الأمر والنهي :

إن قضيةَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي أَنَاطَها اللهُ بأُمَّةِ الرسالة  الشاهدة على العالَمين لا تكونُ هادفةًً وناجحةً إلا إذا انضبط القائمُ بأمر الدعوةِ بالشُّروط والضوابط الآتية :

أ – أَنْ يَعْلَمَ مَا يَأْمُرُ بِهِ وَيَنْهَى عَنْهُ : فالجاهلُ بالحُكْمِ لاَ يَحِلُّ لَهُ النهيُ عَمَّا يَراهُ ولا الْأَمْرُ بِهِ، ولهذا قال الإمامُ العز : “الإِنْكَارُ متعلّقٌ بما أَجْمَعَ عَلَى إِِيجَابِهِ أَوْ تَحْريمِهِ، فمن تَرَكَ ما اخْتُلِفَ في وُجوبِهِ، أَوْ فَعَلَ ما اخْتُلِفَ في تَحْرِيمِه… فإن كان جَاهِلا لَمْ يُنْكَر عَلَيْه، ولا بَأْسَ بِإِرْشادِه إلى الأَصْلَحِ، لِأَنَّه لَمْ يَرْتَكِب مُحَرَّماً… وعَلَى هَذا فَلا يَجوزُ الإِنْكَار إلاَّ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّ الفِعل الذي نهَى عنه مُجْمَعٌ على تحريمه وأن الفعلَ الذي يَأْْمُرُ به مُجْمَعٌ على إيجابه” (شجرة المعارف 428).

ب – أن لا يؤديَ إٍِنْكَارُهُ إلى مُنْكَرٍ أَكْبَرَ مِنْهُ : كأَنْ يَنْهَى عَنْ شُرْبِ الخمر فيُؤَدِّي نَهْيُهُ عَنْهُ إلى قَتْلِ النَّفْسِ أو نَحْوِه، وهذا الأمْرُ يَتَطَلَّبُ معرفةَ طَبائع الناس ِ ونفوسِهِم وأصنافِهِم وأحوالهِمْ، بَلْ وإيجادٍ بديل لهم مباحٍ أَو أقَّل ضرراً مِمَّا هُم فيهِ، وقد أدْركَ فُقَهاؤُنا أهمِّيةَ هذا المنْهَجِ فاعْتَنَوا بتَسْجيلِه، فهذا ابن القَيِّم رحمه الله يقول في هذا الشأن : “وإذا رأيْت الفُسَّاقَ قد اجتَمَعوا على لَهْوٍ ولَعِبٍ أوسماع مُكاءٍ وتَصْدِيَةٍ، فإن نَقَلْتَهُم عنهُ إلى طاعةِ اللهِ فهوَ المُرادُ، وإلا كان تَرْكُهُم على ذلك خيراً من أن تُفَرِّغَهُمْ لما هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِك… وهذا بابٌ واسِعٌ، وسمعتُ شَيْخَ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه… يقول : مررتُ أنا وبعضُ أصحابي في زَمَن التتار بقومٍ مِنْهُم يشْرَبون الخمرَ، فأَنْكَرَ عليهم مَنْ كان معي، فأنكَرْتُ عَلَيْه، قُلْتُ لَهُ : إنَّما حَرَّمَ اللهُ الخمرَ لأنّها تَصُدُّ عن ذِكْرِ اللهِ وعن الصلاةِ، وهَؤُلاءِ يَصُدُّهُم الخمرُ عن قَتْلِ النُّفوسِ وسَبْيِ الذُّرِّيَةِ وأَخذِ الأموالِ فَدَعْهم”  (إعلام الموقعين 3/16).

وما أحْوَجَ الدعاة اليومَ إلى هَذا النّوعِ من الفِقْهِ المَقاصِديِّ النّيِّرِ الذي يقومُ على أساس مَنْهَجِ تَرْتِيبِ الأوْلَوِيّاتِ والمُوازَنَةِ بَيْنَ مَصَالِحِ الأُمُورِ ومفاسِدِها، إِذْ به يمْكِنُ لِلْفِقْهِ الإسلاميِّ أن يُحّْدِثَ تَغْييراً كَبيراً في المجتَمَعِ، وأنْ يُخَلِّفَ أَثَراً بالغاً في الناس، ومنْ شَأْْنِهِ أَيْضاً أن يْنيرَ طريقَ الدَّعوة إلى الله ويْجَلّيَ مَعالِمَها، وأن يُرْشِد َ المُصْلِحين إلى أقْوَمِ نَهْجٍ وأحْسَنِ سَبيلٍ.

ج- أنْ يَغْلِبَ على ظَنّهِ أنَّ إِنْكاره َ المُنْكَرَ مُزيلٌ لَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ بالمَعْروفِ مُؤَثِّرٌ في تَحْصيلِهِ : وفي تقريرِ هذا الشرطِ يقول السلطانُ العِز : “فإنْ عَلِمَ الآمِرُ بالمَعروف والناهي عن المنكرِ أنَّ أمْرَهُ ونَهْيَهُ لا يُجْدِيانِ ولا يُفيدانِ شَيْئاً، أو غَلَبَ على ظَنِّهِ سَقَطَ الوُجوبُ لأنّهُ وَسِيلَةٌ ويَبْقَى الإِسْتِحْبابُ، والوَسائلُ تَسْقُطُ بِسُقُوطِ المَقاصِدِ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ إلى المَسْجِدِ الحرامِ وفيهِ الأنْصَابُ والأَوْثَانُ ولمْ يَكُنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ كُلّما رَآهُ، وكذلك لم يَكُنْ كُلّما رَأى المُشْرِكين يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ، وكذلك كان السّلفُ لا ينكرونَ على الفَسَقَةِ والظّلَمَةِ فُسُوقَهُمْ وظُلْمَهُمْ وفُجورَهُمْ كُلّما رَأَوْهُمْ، معَ عِلْمِهِمْ أنّهُ لا يُجْدِي إنْكَارَهُمْ، وقد يكون من الفَسَقَةِ مَن إِذا قيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بالإِثْمِ فَيَزْدادُ فُسوقاً إلى فُسوقِهِمْ، وَفُجُوراً إلى فُجورِهِمْ” (قواعد الأحكام 1/128-129).

وبتَوَفُّرِ هذه الشروط الثلاثة يكونُ الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر واجباً على الفوْرِ، ولا يقبل التراخي أو التقاعد عنه، وقد نقل الإمام القرافي الإجماع على ذلك، وبالمقابل فإذا تخلَّفَ أحَدُ الشَّّرْطَينِ الأَولَيْنِ وجبَ التحريمُ، وإذا تَخَلّفَ الشرْطُ الثّالِثُ سَقَطَ الوُجوبُ وبقيَ الجَوازُ والنَّدْبُ.  (الفروق 4/255،257).

5 – اختلاف العلماء في بعض جوانب قاعدة الأمر والنهي :

اختلف الفقهاءُ في بعضِ جوانب هذه القاعِدةِ، ومن ذلك هَلْ يَجِبُ الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر على الكِفايَةِ أم على العَيْنِ؟؟

1 – أصْحابُ الوجوبِ على العَيْنِ : وقد قرر هذا الإتّجاهَ الإمامُ الطُّّّّّّوسي وغَيْرُهُ حيث قال : “الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكر فرضانِ من فرائضِ الإسلامِ، وهما فرْضانِ على الأَعْيانِ، لا يَسَعُ أحَداً تركُهُما والإخلالُ بهما” (النهاية في مجرد الفقه والفتوى 299).

وقريبٌ منه ما ذَهَبَ إليه الإمام ُ ابْنُ عبدِ البَرِّ حيث نقل القرطبيُّ عنه قولَهُ بإجماع المسلمين على وُجوبِ تغييرِ المنكرِ على كلِّ من قَدَرَ عَلَيْهِ، وَأَنَّهُ إذا لَمْ يَلْحَقْهُ بتَغْييرِهِ إلاَّ اللَّوْمُ الذي لا يتعدَّى إلى الأذَى، فإِنّ ذَلك لا يَجِبُ أن يَمْنَعَهُ من تَغْييرِهِ فإن لم يقدِرْ فبِلِسانِهِ، فإن لم يقدِرْ فبِقَلْبِهِ لَيْسَ عليهِ أكثر مِن ذلك (الجامع 4/48،49).

وإلى هذا المَسْلَكِ أيضاً أشارَ سَيفُ الدين اسْماعيلُ بقوله : ” والحِسْبَةُ في إِطارِ القيامِ بمهمَّةِ الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر تجب على العالِمِ كما تَجِبُ على وُلاَّّّةِ الأمورِ وهي كذلك واجِبَةٌ على مَجْموعِ الأُمَّةِ كُلٌّ حَسَبَ الوُسْعِ، يُؤَدِّيها المسْلِمُ حَسَبَ طاقَتِهِ، وليس المطلوبُ الأمرَ بالمعروفِ الذي لا يَعْرِفُهُ إلا المجتهدون، أو النهيَ عن المنكر الذي لا يُدْرِكُهُ إلا العالِمونَ، أو لا يستطيعُهُ إلا أُولُوا الأمْرِ، فكُلُّ مَعْروفٍِ يَنْبَغي الأمْرُ بِهِ، وكُلُّ مُنكرٍ ظَهَرَ فِعْلَهُ يَنْبَغي النَّهيُ عنهُ، غَيْرَ أنَّهُ يَجِبُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ المُحْتَسِِبِ الفَرْدِ وَالوَالِي” (التجديد السياسي >رؤية إسلامية< 174).

وبهذا يتَّضِحُ أن أصْحابَ هذا الرَّأيِ يَرَوْنَ أنَّ قَاعدةَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تَشْمَلُ جَميع أفراد الأمة كُلٌّ حَسَبَ مَوْقِعِهِ الإِجْتِماعيِّ وقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ ابْتِداءً بالحكامِ وَوُلاةِ الأُمُورِ، ومُروراً بالعُلَماءِ والدُّعاةِ المُصْلِحينَ وَرَثَةِ الأنبياءِ، وانتهاءً بالرَّّّعِيَّة.

2 – أما أصحابُ الإتجاه الثاني : فيرَوْنَ أن وظيفةَ الحِسْبَةِ في إطَارِ الأمْرِ والنَّّهْيِ واجِبَةٌ على الكِفايَةِ، بدليل قوله تعالى : “ولْتَكُن مِنْكُمْ أُمَّّّّّّةٌ يَدْعونَ إلى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بالمعروفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ….”(آل عمران : 104)،وفي معنى هذه الآية يقول ابن قدامة : “وفي هذه الآية بَيَانُ أَنَّهُ فَرْضٌ على الكِفَايَةِ لاَ فَرْضُ عَيْنٍ، لأنَّهُ قال : ” ولتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّّةٌ”، ولم يَقُلْ : كُونُوا كُلُّكُمْ آمِرينَ بالمَعْروفِ، فإِذا قَامَ بِهِ مَنْ يَكْفي سَقَطَ عَنْ البَاقينَ، وَاخْتَصَّ الفَلاَحَ بالقَائِمينَ المُبَاشِرينَ لَهُ”.

ذ. محمد الأنصاري

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>