حِكْمَةُ مَنْعِ اَلظَّالِمِ مِنْ نَيْلِ اَلإِمَامَةِ


قال تعالى :

” لاَ يَنَالُ عَهْدِي َالظَّالِمِين َ”

حِكْمَةُ مَنْعِ اَلظَّالِمِ مِنْ نَيْلِ اَلإِمَامَةِ

إِذَا كَانَ اَلإِنْسَانُ لاَ يَخْتَارُ لمَِنْ يَتَوَلَّى لَهُ شُؤُونَهُ اَلْمَالِيَّةَ وَاَلتِّجَارِيةَ وَالصِّنَاعِيةَ وَغَيْرَهَا إِلاَّ الأَمِينَ اَلصَّادِقَ اَلمُسْتَقِيمَ، وَإِذَا جَرَّبَ عَلَيْهِ خِيَانَةً كَانَ جَزَاؤُهُ اَلطَّرْدَ والعِقابَ، فكيفَ يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ الإنْسَانُ أَحْكَمَ مِنَ اَللهِ تَعَالَى، وَأَحْرَصَ عَلَى مَصْلَحَةِ الإِنْسَانِ مِن رَبِّ الإِنْسَانِ؟؟ ومَاذَا تَكُونُ مؤسسةٌ بَشَرِيَّةٌ -مَهْمَا بلغَ حَجْمُهَا- بجانبِ الكَوْنِ كُلِّهِ، وبجانبِ ملكِ اللهِ تَعَالَى الشَّامِلِ لِلسَّمَاءِ وَالأَرْضِ، ومَا بَيْنَهُمَا، وما فِيهِمَا، فَهَلْ يَسْتَحِقُّ الخَائِنُ لرَبِّهِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا مستخلفًا فِي مُلْكِ سَيِّدِهِ وَمَوْلاَهُ، وهَلْ يُرَْتجَى نَفْعٌ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الاسْتِخْلاَفِ؟!

ثُمَّ إذَا كانَ اللهُ تعالَى قَد حَرمَ الظُّلمَ عَلَى نَفْسِهِ وجَعَلَهُ مُحَرَّمًا بَينَ عِبَادِهِ، أفيعقل أن يستخلف الظالم على عباده، ويمكن له في أرضه، ويجعله إماما للناس به يقتدون، وإليه يفزعون، وبه يحتمون، وبهديه يسترشدون؟؟

إن ذلك كله يُنافِي الحِكمةَ الإلهِيةَ الَّتِي يَراهَا أُولُوا الألبَابِ فِي كُلِّ مَخْلُوقَاتِهِ، وتشريعاتهِ، وسنَنِهِ الكَوْنِية، وأحكامه الأزَلِيةِ الَّتِي لاَ يَأْتِيهَا اَلْبَاطِلُ مِنْ بَينِ يَدَيْهَا، وَلاَ من خَلْفِهَا. وَيمكنُنَا استِخْلاَصُ بَعْضِ الحِكَمِ مِنْ وَرَاءِ مَنْعِ الظَّالِمِ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الإِمَامَةِ، وَإِجْمَالُهَا فِيمَا يَلِي :

1) تبدِيلُ الهُويَّةِ والفِطْرَةِ : إِنَّ الَّلهَ تَعَالَى خَلَقَ الإِنْسَانَ مَفْطُورًا عَلَى الإِيمَانِ بِهِ وطاعتهِ وتِلْكَ هِيَ صبغةُ اللهِ المغْرُوسَةُ فِي روحِهِ، والتِي بِهَا يتميزُ عَنِ الصِّبْغَةِ الشَّيْطَانِيةِ اَلَّتِي تَدْفَعُ الإنسانَ إلَِى عِبَادَِة مَنْ لاَ يَسْتَحِقُّ العِبادةَ من بشرٍ وأهْوَاء أومما هُوَ دُونَ البَشَرِ من الأشياءِ المَاديةِ كَيْفَمَا كانَ نَوْعُهَا.

فأعظم الظلم علـى الإطلاق هو الشرك بالله تعالى، ومن ظلم نفسه وجرها للهلاك كان لغيره أظلم وأهلك، وبذلك كان غير مستحق للأمانة والإمامة> إن الشرك لظلم عظيم<سورة لقمان

2) جر الإنسان إلى الخلود في النار : إن مصلحة الإنسان الحقيقية هي الفوز في الآخرة بالجنة>فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز<سورة آل عمران ـ والظالمُ منشغلٌ بالدنيا، شاغل الناس بها، لاَهٍ عَنْ آخرتهِ، ملهُ النَّاسُ عَنْهَا، بِالدُّنْيَا يَطْغَى ويتجبرُ ويَتَسَلَّطُ، نَاسِيا الآخرة ومآل الظالمين بها، ومن كان كذلك، كيف يضع الله تعالى بين يديه مقاليد الأمور، ومصائر الناس، ويمكنه من إمامة التوجيه والقيادةِ والريادةِ >تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَاَلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ<سورة القصص ـ>وَلا َتَرْكَنُوا إِلَى الذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ<

3) الإخْلاَلُ بالأمنِ وسيادَةُ الفتنةِ : الإمامُ الظالمُ يُعْمِي اللهُ بَصِيرَتَهُ، فَيَرْزُقُهُ بطانة سيئة تمتطيه لخدمة مصالحها الخاصة المتشابكة مع مصالحه الخاصة، فتبطش باسمه وتغتني بنفوذه، وترفع ذكرها بالإنتساب إليه، وتلمع صورتها المشوهة في أعين الناس بقلب الحقائق، وزخرفة الدعاية الجوفاء، ودعوى الإخلاص في الطاعة والتنفيذ للسياسة التي تستهدف الصالح العام.

وهذا بقدر ما يعمل على ترسيخ ا لولاء للأشخاص والأهواء البشرية، بقدر ما يفقد الحاكم  الظالم هيبته في قلوب الناس، وإذا ضاعت هيبة الحاكم ضاعت هيبة الدولة، وأصبح المحكومون يعيشون في هرج ومرج، البعض يتزلف لقضاء المآرب، والبعض ينتقل لإشعال الفتيل، والبعض يتمنى الخلاص وينتظر الفرصة، والبعض يمد اليد لأعداء الأمة للإنقضاض على حكم لا مصداقية له، ولامكانة له في القلوب، وكل ذلك يجمع لفتنة عارمة تأتي على الأخضر واليابس >وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُم خَاصَّةً<سورة الأنفال.

4) الخراب الإقتصادي : إن الله تعالى قَصَّ عَلَيْنَا قِصَّةَ رجلٍ طَغَى بمالِ اللهِ تعالَى، وكفرَ بِنِعْمَتِهِ، فكانَ جزَاؤُهُ خَرَابَ جَنَّتِهِ الوَافِرَةِ التِّمار، >وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ : مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ولَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهُمَا مُنْقَلَبًا….وَأُحِيطَ بِثُمُرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّيَ أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اَلَّلهِ<سورة الكهف. ونفس العقوبة كانت من نصيب أصحاب  الجنة التي ذكرها الله تعالى في سورة القلم، ونفس المصير لاقاه قارون. فهؤلاء كلهم ظلموا أنفسهم، وطغوا بمال ربهم، فأباد الله تعالى اقتصادهم، وأهلك حرثهم ونسلهم، فكيف بمن يظلم أمة وشعوبا؟! وكيف ينتظر ازدهار اقتصاد أمة وشعوب يتولى أمورها فاسدون مفسدون، وذئاب جائعون. حكم يقوده أئمة للنار يدعون، وبالكذب السياسي يتاجرون، وللإفلاس الإقتصادي يقودون، وللإنحلال الخلقي يهدفون، كيف يمكن الله تعالى لهم ويجعلهم فِي الصَّالحَاتِ مُخَلَّدِينَ؟ وَهُمْ مِنْهَا بُرَآءُ وَعَنْهَا مُبْعَدُونَ؟؟

5) مصادرة الرأي الصالح المعارض للتيار الإفسادي : إن الحكمَ الظالمَ لا يسمعُ إلا َصدَى نفسِهِ، وَلاَ يعترف إلا بمن يعزف على وتر الإعجاب، وكيل المديح الكاذب المتملق. أما الناصح الأمين فهو المنافس الخطير الذي تشحذ له الحراب >أَرَأَيْتَ الذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلَّى<ـ سورة العلق ـ >قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ اَلْمَرْجُومِينَ<ـ سورة الشعراء ـ >قَالَ المَلأُ الذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنَ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودَنَّ فِي مِلَّتِناَ<ـ سورة الأعراف ـ “وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اَللهَ أَخَذَتْهُ العِزَّةُ بِالإِثْمِ”سورة البقرة.

حكم يتزعمه أئمةٌ جَائِرُونَ يخنقون الأنفاسَ، ويصادرون حرية الرأي، ويمنعون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يسير إلا إلى الهاوية بنفسه وبشعوبه>وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ اَلْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا<ـ سورة الإسراء ـ > ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين ويل يومئذ للمكذبين<ـ سورة المرسلات ـ >وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ<سورة القصص.

6) عدم الإتعاظ والإعتبار : إن الأئمة الظالمين يقرأون التاريخ والأحداث الآنية قراءة بليدة غبية، تجعلهم يغترون بأنفسهم، ويعتقدون أنهم أذكى من الذين سبقوهم وأمكر وأخدع لله تعالى، وأنهم بمنجاة من المصير السيء الذي حاق بمن كان أكثر منهم دهاءا ومكرا، > فَمَا أَغَْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اَللهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ<سورة الأحقاف >فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزُيِّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِرُوا بِهِ فَتَحْنَا

عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً َفإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطَعَ دَابِرُ اَلْقَوْمِ اَلَْذِينَ ظَلَمُوا وَاَلحَمْدُ لِلهِ رَبِّ اَلْعَالمِينَ< سورة الأنعام.

إذا كان غيرنا ممن لا رسالة حضارية لهم، لا يرشحون للرئاسة، وهو أبسط منها بكثير إلا من لا سوابق له، فكيف بإمام خير أمة أخرجت للناس؟ وإذا كان هؤلاء قد عرفوا الطريق الصحيح لتشبيب الشعوب، وتجديد دماء الحياة فيها بإفساح المجال لتداول السلطة والرأي والتجارب فكيف بأمة الشهود الحضاري التي يحكم حاكمها ومحكوميها مبدأ >إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللهِ أَتْقَاكُمْ< وتتجدد خلاياها بالتعاون على البر والتقوى، والعدل في الحكم، والقول والشهادة، والفكر والتفكير، والتعامل والتسيير، وجعل مرضاة الله تعالى فوق كل اعتبار.

وإذا كانت ابنةُ الرجلِ الصالحِ تَحُثُّ أَبَاهَا عَلَى استئجارِ الرجلِ الصالحِ لِرَعْيِ الغَنَمِ >إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ< فكيف بمنْ يستأجرُ لرعيِ أمةٍ ذَاتِ رسالة حضارية خالدة، أيكون رعي الغنم أعلى شأنا عند الله تعالى من رَعْيِ البَشَرِ وَتَدْبِيرِ شُؤُونِهِم؟؟ كلا إنَّ حكم َالناسِ وَقِيَادتهم مسؤولية جسيمة، من تحملها عن جدارة واستحقاق كان من المستظلين بظل الرحمان يوم لا ظل إلا ظله، ومن مال وجار خاب مسعاه وبار >وَلا ََتحْسَِبنَّ اَللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ< سورة إبراهيم.

،تتمة الموضوع في ص 7

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>