التعليم الأصيل ودوره في حراسة الوجود المعنوي للأمة


التعليم الأصيل ودوره في حراسة الوجود المعنوي للأمة  الدكتور محمد يسف

سأعرض هذه المشاركة في النقط الثلاثة الآتية :

1) التعليم الأصيل : الإسم والمضمون.

2) رسالة التعليم الأصيل، ماضيا، وحاضرا، ومستقبلا.

3) صمام أمن الأمة وعنوان بقائها وامتدادها.

الإسم والمضمون :

الأصيلُ، من الأصَالَةِ، وهِيَ في الرأي الجَوْدَةُ، وفي الأسْلوُبِ الإبداعُ والإبتِكَارُ.

وفي النسب : العراقَةُ والشَّرَفُ

يقال : أَصُلَ النَّسَبُ، شَرُفَ وَزَكَا فهو أَصِيلٌ.

ويُطلق على هذا التعليم أيضًا : الأصْليُّ، وهو ما كان أَصْلاً في مَعْنَاهُ، ويقابله الفرعِيُّ، والزائدُ، والإحتياطيُّ أو المقلِّد.

وإِذَا أُطْلِقَ هذا الإسمُ اليومَ، فلا يَنْصرف إلا إلى التعليم الإسلامي الذي يمثل خصائص الأمة ومميزاتِها وذاتيتَها في مقابِل التعليم العصريِّ الذي يمثل مَنَاهِجَ الغربِ ومفاهيمَهُ وتصوُّرَاتِهِ.

أما نحنُ فعندمَا نُرِيد تحديدًا دقيقًا لهذا التعليم فإنَّنَا لا نجد تعريفًا أَصْدَقَ، وأوفَى بالمرادِ بهِ من أن نَقُولَ : >هو التعليمُ الإسلاميُّ المغربيُّ، الذي أطَّرَ حياةَ الأمةِ، وحَافَظَ عَلَى شَخْصِيَتِهَا الإِسلامِيةِ والقَوْمِيَةِ، وَقَادَ خُطَاهَا فِي مَدَارِجِ العِزِّ، وَمَعَارِجِ التَّقَدُّمِ مُنْذُ أَنْ اسْتَظَلَّتْ بِظِلِّ الإِسْلاَمِ، وَارْتَضَتْهُ لَهَا دِينًا، عقيدةً وشريعةً وسلوكًا.

وفِي يَقِينِي أَنَّ هَذَا الوَصْفَ الذِي ارْتَبَطَ بِتَعْليِمِنَا الإِسْلاَمِي مَعَ بِدَاَيةِ الإسْتِقْلاَلِ لَمْ يَعُدْ يُرَاعَى فيِهِ المَعْنَى المدْحِي الذِي ُيفتَرضُ أن يُسْتَحْضَرَ في الذهنِ كُلَّمَا تَرَدَّدَ لِهَذَا التعليم ذكرٌ، ولكنهُ أخذ مع الأسف معنًى آخَرَ هُوَ أَدْنَى إلى القَدْحِ منهُ إلى المدِيحِ والتمجِيدِ، عَلَى أن بعضهم لا يكاد يخفي سيء شعوره نحو هذا التعليم، عندما يعدل بمفهوم ((الأصيل)) عن معناه القريب إلى ما يراد به، الجزء من الوقت الذي يبدأ من حين اصفرَارِ الشَّمْسِ، مؤذنة بالغروب، إلى المغرب، أي أن أيام هذا التعليم أصبحت معدودة. كالشمس على أطراف النخيل، وإنه لهامة اليوم أو غد، وعلى أهله أن يتمثلوا بما قاله شاعر قديم :

أتى الزمان بنوه في شبيبته فس  – رهم وأتيناه على الهرم

أي إنه في إدبار لا ينتظر له معه نهوض ولا إقبال كبرت كلمة تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كذبا<.

أما من حيث مضامينه، فلقد علم من درس تاريخ القرويين وأخواتها من الجامعات الإسلامية الأخرى التي ازدينت بها حواضر الإسلام مشرقه ومغربه في سالف أعصر المجد انطلاقا من سَمَرْقَنْدَ وبَغْدَاد ودِمَشْق، شرقًا، إلى فاس وقرطبةَ على ضفاف بحر الظلمات غربا، ومرورا بالقاهرة والقيروان، أن هذه المعاقلَ العلمية الكبرى، في مسيرتها الزمنيةِ الطويلةِ، مَرَّتْ بِفَتَرَاتِ ازدهارٍ ومجدٍ وعزٍ، بحيث كان لها وحدها القرارُ العلميُّ، والريادة الفكرية في العلوم النقلية، والعقلية على السواء، وغيرُهَا في هذا الأمر كان تبعًا لَهَا، يتقفى خطاها، ويتلمس أثرها ويتلقف ما تعلنه خلايا البحث والتنقيب فيها وما تتفتق عنه عقول أعلامها من نتائج باهرة، وتحققه في المجال المعرفي من فتوحات ظاهرة.

ولسنا نَنْكُر أنَّهَا قد اعترتها بالمقابل فتراتُ ضُعْفٍ وتعثر أجبرتها أحيانا على أن تتخفف من حمولتها العلمية الثقيلة التي كانت تشكل في مثل تلك الظروف عبئا يشق عليها أن تنهض به. وتُتَابِعَ الخَطْوَ معهُ.

وسيكون من باب الظلم لهذا التعليم، والإجْحَافَ بِحَقِّهِ، والمسَاسِ بمكانتهِ، ألا نحتسب من تراثه العلمي والتعليمي إلا ذلك القدر اليسير الذي أدركناه عليه وهو في حالة من الإعياء والضعف والتوعك والركود، من علوم وفنون لا تكاد تتعدى أصابع اليد الواحدة عدا، وهي في مجملها تدور على شيء من اللغة وقواعدها وبيانها وبلاغتها واشتقاقاتها، ونحوها وصرفها، وآدابها، ومعها شيء من الفقهيات المجردة من أدلتها والمفصولة عن أصُولِهَا، ونسقط منه عهود العزوالمجد والإزدهار، والسلطان العلمي الذي قامت في ظله حضارة إسلامية إنسانية عالمية عز نظيرها فيما غبر وفات، ولن يتكرَّرَ مثيلٌ لَهَا فِيمَا هو قادمٌ آتٍ، إلاَّ أن يُعِيدَ التاريخُ نَفْسَهُ، ويجدِّدِ الزَّمَانُ أَهْلَهُ.

وَقَبِيحٌ بِنَا وإن قدم العهـ               د هوان الآباء والأجداد

ولا نَنْسَى أن لنا حِصَّتَنَا مِنَ الذَّمِ إِذْ فَرَّطْنَا، ونصيبناَ مِنَ المَلاَمَةِ إِذْ ضَيَّعْنَا وَلِلهِ أبوه من قائل، وكأنه يعرض بنا، وينطق بلسان حالنا إذ يقول :

وَرِثْنَا المجدَ عَنْ آبَاءِ صِدْقٍ    أَسَأْنَا فِي دِيَارِهِمُ الصَّنِيعَا

إذا الحَسَبُ  الرفيعُ تَوَارَثَتْهُ    بُنَاةُ السُّوءِ أَوْشَكَ أَنْ يَضِيعَا

وإن نظرةً واحدةً يُلقيها البحثُ على تاريخ هذا التعليم وهو يعْبُرُ القرون والأزمنة، ويتخطَّى رقابَ العصورِ والأجيال لكفِيلَةٌ بأن تَضَعَهُ في أُفُق، يتيح له التقاط صورة شاملة تساعد على تقديم تصميم تقريبي.

واعتمادا على رصد أولي وسريع نستطيع القول : بأن مناهج الدراسة بالمؤسسات التعليمية الإسلامية كانت تتألف من شطرين : نقلي وعقلي، وكان الشطر النقلي منه يتألف من علوم الوسائل والغايات أو الآلات والمقاصد.

وتدور علوم الآلة والوسائل على خدمة لغة القرآن الكريم وما تقتضيه هذه الخدمات اللغوية من أدب وبلاغة ونحو وصرف واشتقاقٍ ونَحْوِهَا.

أما علومُ المقاصد فتدور حَوْل دراسةِ القرآن الكريم، والسنة النبوية بمفهومها الشامل الجامع، وفي هذا السياق تدخلُ كُلُّ العلومِ القرآنية والعلوم الحديثية، وما يستنبط من الكتاب والسنة من قواعد وأحكام وضوابط انبثقت منها علوم الفقه التي شغلت حيزا هاما من الخريطةِ العلميةِ.

وهكذا يمكننا حصر المحاور الكبرى للمعرفة الإسلامية فيما يأتي :

1) علمُ العقيدةِ، وما يدورُ حَوْلَهَا من علومٍ مساعدة ومن ضمنها الفلسفة الإسلامية أو علم الكلام.

2) العبادات : وما يندرج في نطاقها، من كل ما يؤسس العلاقة التي تربط الإنسان بخالقه.

3) الشريعة أو المعاملات : من كل ما ينظم حياة الإنسان المسلم ويجدد سلوكاته كفرد داخل مجتمع متغير متحرك.

4) التربية الروحية والنفسية أو التصوف، وما يتصل بآداب تهذيب النفس والأخلاق والسلوك والتدبير الباطني.

هذا الشطر من العلوم كان يمثل الثابت القار في مناهج تعليمنا الإسلامي، لا يمكن إسقاطه أو الإستغناء عنه بحال، لأنه يمثل خط الإمتداد والبقاء المعنوي وفي هذه العلوم طبعا ما هو نقلي محض، وما هو عقلي محض، وما هو مشترك بينهما.

وهناك قسم من العلوم غاب عن مناهج التعليم في مؤسساتنا التعليمية منذ زمن غير يسير، وأعني به ما يعرف بالعلوم التجريبية التي تقوم على خدمة الإنسان وتحقيق مصالحه الدنيوية والدينية معها، مثل الرياضيات، والطبيعيات، والطب، والفلك، والصيدلة، والموسيقا، والميكانيك، وما إليها.

وكانت هذه العلوم تجد لها مكانا رحبا في المؤسسات والمدارس والمعاهد الإسلامية بيد أنها لم تكن ثابتة ثبوت العلوم التي لها صلة مباشرة إو غير مباشرة بالدين.

من اللافت أن المهتمين بقضايا الحياة الفكرية في المغرب تعرضوا لموضوع ازدهار فن من هذه الفنون على الأقل في جامعاتنا، وفي مقدمتها جامعة القرويين وهو علم الطب وأشاروا إلى أن الدراسات الطبية أدركت أوج ازدهارها في العصر الموحدي، حيث كان يدرس على أيدي أطباء عظماء وأن الطب المغربي كان جزءا لا يتجزأ من الطب الأندلسي، وكان يستعمل إلى جانب المصدر العربي، المصدر الإغريقي القديم حيث أن أساتذة الطب المسلمين الذين يتقنون اللغتين اللاتينية والإغريقية، يتعاملون مع المصدر الأجنبي تعاملا مباشرا.

ويذكر المقري في نفح الطيب 1/244 أن عددا من نوابغ أطباء المغرب علموا في المشرق، ودبروا المستشفيات هناك وذكروا أن الطبيب ابن عبد الله الصقلي كان يتكلم الإغريقية ويدرس الطب بفاس.

وأشار الكانوني في كتاب : >شهيرات النساء< إلى أنه كان بفاس في القرن الرابع الهجري مدرسة طبية.

وذكر رينو في كتابه : >الطب القديم في المغرب<أن علم الطب كان يدرس في جامعة القرويين بواسطة كتب عربية وإغريقية، ولم يتوقف الدرس الطبي فيها إلا حوالي القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي.

وكان علم الطب مشاعا بين طبقة من الفقهاء والمحدثين والأدباء، وذكر صاحب نيل الإبتهاج ص353 أن الإمام السنوسي شارح البخاري له شرح على رجز ابن سيناء في الطب. ولقد تطور علم الطب بالمغرب سواء منه الطب الوقائي أو السريري العلاجي كما تطور علم الجراحة، والطب الإستشفائي وفن الصيدلة. ويعلم الباحثون أن مدينة فاس صارت في العهد الموحدي حاضرة الغرب الإسلامي كله وموضع العلم منه حسب ما يقول عبد الواحد المراكشي في>المعجب< إذ اجتمع فيها علم القيروان وعلم قرطبة.

وأكد نفس القول ابن عبد الملك المراكشي 763 معلنا عن مكانة فاس العلمية قائلا : كان بفاس من الفقهاء الأعلام الأجلة أعيان الأنام ما ليس في غيرها من بلدان الإسلام إذ هي قاعدة المغرب ودار العلم والأدب.

وغني عن البيان أننا عندما نقول فاس فإننا نعني القرويين، فلولا القرويين ما غدت فاس ولا راحت، ولا كانت شيء مذكورا وعلى نحو ما قيل عن القاضي عياض : >لولا عياض ما عرف المغرب ولولا كتاب الشفاء ما عرف عياض<نقول : لولا فاس ما ذكر المغرب ولولا القرويين ما ذكرت فاس.

رسالة التعليم الأصيل :

إن التعليم الذي استمد فلسفته من روح الإسلام، وقام منذ نشأته على الإلتزام بالثابت من المثل والقيم، لا بد أن تكون له رسالة ينهض بها وأمانة يؤديها.

وعلى مسار دروب الماضي، وبين منعطفاته، ومسالكه كان تعليمنا الإسلامي وفيا لغايتين اثنتين ومهما قصر أو فرط، فإنه لم يفرط في شيء منهما،

أولاهما على المستوى الأكاديمي حيث كانت معاقله على الدوام مناط الرجاء في صياغة علماء أعلام قادرين على حمل الأمانة العلمية وأدائها، مؤهلين لحراسة القيم الخلقية والذود عنها، ورد الطعون والشبهات والبدع والضلالات والذب عن الدين بنفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.

ولاسيما في بلد كالمغرب قام بنيانه على إسلام سني، وصوفية سلفية نقية ارتبطت بتربية النفس وإرهاف الإحساس وتصفية الوجدان، وسلمت من شوائب الفلسفة الضالة الغارقة في الشك والإلحاد. وبرئت من ذرائع الرهبنة، وكانت باستمرار سندا للشرع. ودرعا للوطن تهب لرد العدوان عنه كلما هدده خطر أو أحدق به مكروه أو أحاط به بلاء وشر.

ويعلم الذين أوتوا العلم أن التيار الصوفي الذي أنجبه الإسلام السني بالغرب الإسلامي والذي ترعرع ونما، وزكت فروعه، وطابت ثماره في مناخ المعاهد الإسلامية وتحت رقابة أعلامها، قد كان له إشعاع مذكور في أفق المشرق الإسلامي إذ وجد فيه أهل المشرق من الغذاء الروحي والصفاء الوجداني ما افتقدوه في غيره من المذاهب والتيارات التي كان يعج بها مناخه، وتمتلئ بها أرضه وسماؤه.

والخلاصة، أنه كان للتصوف المغربي إشعاع وامتداد في دنيا الإسلام قاطبة، أما في أرض الكنانة بالخصوص فقد كان له نبأ عجيب، وشهرة طائرة، تردد صداها في تواريخ مصر والقاهرة.

وثانيتهما على المستوى الشعبي من حيث إن هذا التعليم جعل من بين ثوابت رسالته، أن يكون تعليما شعبيا متاحا لكل الفئات والطبقات بحيث يتساوى الشعب كله في الحد الأدنى على الأقل من ضرورياته. وقد كان له ما أراد فعلا حيث صار تعليما جماهيريا، يمثل ضميرالأمة ووعيها ويقف معها في خندق واحد. وبفضل التلاحم بين رجال هذا التعليم وجماهيره كان الخطاب الديني دائما يفعل فعله في النفوس، ويحدث أثره في السلوك، ولا سيما في ظروف المحن إذ كان هو الخطاب الوحيد الذي يستقطب الأمة ويعبئها للصمود والجهاد والوقوف في وجه كل معتد أثيم. وبفضله كذلك حافظت هذه الأمة على شخصيتها المتميزة، وخصوصياتها في الإبداع الفكري والحضاري وقد بقي التعليم الأصيل هو التعليم الوطني، أكاديميا، وشعبيا ولم تعرف البلاد في يوم من الأيام ثقافة ولا تعليما غير ثقافته وعلومه، التي كانت تتسع أحيانا فتشمل كل علوم الدنيا والدين وتنكمش أحيانا أخرى، فتتخلى عن شيء من علوم الدنيا، ولكنها لم تفرط أبدا في علوم

(التتمة في ص 7 )

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>