التعقيب على التعقيب 4/4
> ذ. المفضل فلواتي
أَمَّا (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم ْإِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فَالْأَمْرُ فِيهَا يَسيِرٌ، وَ لاَ يَدْعُو لِلأَْسَفِ فما ذهَبْتَ إِلَيْهِ قَدْ قَالَ بِهِ بَعْضُ اَلْعُلَمَاءِ، وَلَكِنْ قَالُوا أَيْضًا بِالرَّأْيِ اَلَّذِي وُجِّهَتْ بِهِ فِي اَلْجَرِيدَةِ، أَيْ أَنَّ اَلصِّيَامَ فِي اَلسَّفَرِ إِذَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ مَشَقَّةٌ يُخْشَى مِنْهَا ضَرَرٌ، هُوَ خَيْرٌ مِنَ اَلْإِفْطَارِ.
قَالَ ابْنُ اَلْعَرَبِي : “وَاَلصَّحِيحُ أَنَّ اَلصَّوْمَ أَفْضَلُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وَأَمَّا فِطْرُ اَلنَّبِيِّ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ رُوِيَ فِي اَلصَّحِيحِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إِنَّ اَلنَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمْ اَلصِّيَامُ، وَإِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ فِطْرَكَ، فَأَفْطَرَ. وَلاَ خِلاَفَ فِي أَنَّ مَنْ شَقَّ عَلَيْهِ اَلصَّوْمُ فَلَهُ اَلْفِطْرُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ اَلْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ : كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ فَمِنَّا اَلصَّائِمُ وَمِنَّا اَلْمُفْطِرُ، مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فَصَامَ، فَذَلِكَ حَسَنٌ، وَمَنْ وَجَدَ ضَعْفًا فَأَفْطَرَ فَذَلِكَ حَسَنٌ، فَأَمَّا عِنْدَ اَلْقُرْبِ مِنَ اَلْعَدُوِّ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي اسْتِحْبَابِ اَلْفِطْر اخْتِلاَفٌ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ، وَبِهِ أَقُول ُ”. (أحكام القرآن 1/81).
وَقَالَ اَلشَّيْخُ مُحَمد بْنُ أَحْمَد الشَّنْقِيطِي بَعْدَ مَا رَوَى حَدِيثَ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرو اَلْأَسْلَمِي أَنَّهُ قَالَ : “يَا رَسُولَ اَللَّهِ أَجِدُ قُوَّةً عَلَى اَلصِّيَامِ فِي اَلسَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ مِنْ جُنَاحٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هِيَ رُخْصَةٌ مِنَ اَللَّهِ فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ” رَوَاهُ مُسْلِم. قَالَ : فَعِنْدَ اَلمَْالِكِية وَاَلشَّافِعِيَّةِ يَجُوزُ اَلْفِطْرُ لِلصَّائِمِ اَلْمُسَافِرُ، وَاَلصَّوْمُ أَفْضَلُ، وَعِنْدَ اَلْحَنفِية اَلصَّوْمُ أَفْضَلُ وَعِنْدَ اَلْحَنَابِلَةِ يُسَنُّ اَلإِفْطَارُ لِلْمُسَافِرِ، وَيُكْرَهُ لَهُ اَلصَّوْمُ، فَإِنْ صَامَ أَجْزَأَهُ” (فتح الوهاب 293).
أَمَّا ابْنُ رُشْدٍ فَقَدْ قَالَ : إِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ، فَبَعْضُهُمْ رَأَى اَلصَّوْمَ أَفْضَلَ…. (الهداية 5/166).
وَعَلَى هَذَا فَلاَ دَاعِي لِلتَّأَسُّفِ، فَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ عُلَمَاءُ، وَاَلْمَسْأَلَةُ خِلاَفِيَّةٌ، وَاَلْقَوْلُ بِرَأْيِ لِبَعْضِ اَلْعُلَمَاءِ، لاَ يَضُرُّ اَلدِّينَ -بِحَمْدِ اَللَّهِ تَعَالَى- فِي شَيْءٍ، لأَِنَّ اَلنَّصَّ اَلْقُرْآنِي يَحْتَمِلُ ذَلِكَ، وَاَلْقَوْلُ بِأَفْضَلِيَّةِ اَلصِّيَامِ أَحْوَطُ لِلدِّينِ وَأَدْعَى لِلْغِيرَةِ عَلَيْهِ، وَأَشَدُّ لأَِبْوَابِ اَلتَّرَخُّصَاتِ اَلَّتِي رُبَّمَا يَتَّكِئُ عَلَيْهَا بَعْضُ اَلنَّاسِ فَيَنْتَهِكُونَ حُرْمَةُ رَمَضَانَ بِدُونِ حُدُودٍ وَلاَ مِيزَانٍ وَلاَ ضَوَابِطَ.
أَمَّا اَلْحَدِيث اَلَّذِي ذَكَرْتَ وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “لَيْسَ مِنَ اَلْبِرِّ اَلصِّيَامُ فِي اَلسَّفَرِ” وَظَهَرَ لَكَ أَنَّهُ مُتَعَارِضٌ مَعَ تَوْجِيهِ اَلْآيَةِ نَحْوَ أَفْضَلِية الصيام فبالرجوع إلى الأسباب التي من أجلها قيل الحديث يرتفع الإشكال.
فَاَلْحَدِيثُ قَدْ كَثُرَ رُوَاتُهُ، وَقَدْ ذَكَرَتْ كُتُبُ اَلسُّنَّةِ أَسْبَابَهُ قَالُوا “كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَرَأَى رَجُلاً قَدْ اجْتَمَعَ اَلنَّاسُ عَلَيْهِ، وَقَدْ ضُلل عَلَيْهِ، فَقَالَ : مَالَهُ؟ قَالُوا : رَجُلٌ صَائِمٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “لَيْسَ مِنَ البر أن تصوموا في السفر” زاد النسائي “وعليكم برخصة الله التي أرخص لكم، فاقبلوها” انظر الهداية 5/168.
ومختصر نيل الأوطار 2/336-338، فقد قال فيه مختصره “وفي ذلك -الحديث- دليل على أن الصيام في السفر لمن كان يشق عليه ليس بفضيلة وقال الشافعي : نفي البر المذكور في الحديث محمول على من أبى قبول الرخصة”.
وَأَظُنُّ أَنَّ اَلتَّعَارُضَ قَدْ زَالَ بِحَمْدِ اَللَّهِ تَعَالَى، حَيْثُ أَصْبَحَ اَلْمَعْنَى : أَنَّ الَصِّيَامَ أَفْضَلَ بِالنِّسْبَةِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ بِدُونِ مَشَقَّةٍ. وَاَلْفِطْرَ أَفْضَلُ بِالنِّسْبَةِ لِلْوَاجِدِ مَشَقَّةً.
وَفِي اَلْخِتَاِم أُكَرِّرُ اَلشُّكْرَ مَرَّةً أُخْرَى لِلْأَخِ اَلْغَيُورِ، وَنَنْتَظِرُ اَلْمَزِيدَ مِنَ اَلنَّصَائِحِ وَاَلْمُسَاهَمَاتِ، فَهَدَفُنَا هُوَ خِدْمَةُ هَذَا اَلدِّينِ اَلَّذِي نُشَاطِرُكَ اَلْغِيرَة عليه، بل وللغيرة عليه كانت الجريدة.
كما نرحب بكل مساهمة من العلماء والإخوة القراء، فَاَلْخَيْر أردنا، فإن أصبت فلله الحمد والمنة، وإن أخطأت فمن نفسي وأسأل الله العفو والمغفرة، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ.
ملاحظة : قد وصلتنا رسالة الأخ الغيور بعد أن بدأنا نشر التعقيب، وهي تنم عَنْ رُوحِ اَلْغِيرَة الخالصة والمحبة الصادقة لهذا الدين، كما تنم عن تواضع الناصحين لوجه الله تعالى ومشاركتِنَا هَمَّ البحث عن الحق والعِلْمِ بدون َتحَيُّزٍ، فجازاك الله يا أخي كل خير عن الإسلام والمسلمين، وجعلنا وإياك من العاملين لإبراز معالم هذا الدين آمين.