افتتاحية التِّسْعَاتُ الأَرْبَعُ المَشْؤُومَةُ، وَتَكْرِيسُ التَّخَلُّفِ والجُمُودِ والاِسْتِبْدَادِ


افتتاحية

التِّسْعَاتُ الأَرْبَعُ المَشْؤُومَةُ، وَتَكْرِيسُ التَّخَلُّفِ والجُمُودِ والاِسْتِبْدَادِ

لقد أحسَّ العالمُ كُلُّهُ بنَوْعٍ من التَّغْيُّرِ بَعْدَ سُقُوطِ المُعَسْكَرِ الشَّرْقِيِّ، الذي كان يَرْمُزُ إلي القَبْضَةِ الحَدِيدِيَّةِ المُذِلَّةِ للإِنْسَانِ، والمُهِينَةِ لكرامته، والمُسْتَهْزِئَةِ بِقُدْرَاتِهِ علي الإِبْدَاعِ، وإحْدَاثِ الفعْلِ المُغَيِّرِ لمَجْرَى مَسَارِهِ الحَضَارِيِّ من الأَسْوإِ حَالاً، إلى الأَحْسَنِ حَالاً ومآلاً.

وكُنَّا نَظُنُّ أَنَّ تِلْكَ الزَّلْزَلَةِ العنيفَةِ التي طوَتْ تَارِيخاً، وفتَحَتْ تاريخاً جَدِيداً، سَتَهُزُّ العَقْلِيَّةَ المتَخَلِّفَة لحكام الجنُوبِ هَزّاً عمِيقاً، يَجْعَلُهَا تُرَاجِعُ حسابَاتِهَا مع نَفْسِهَا، ورَبِّهَا وشُعُوبِهَا، وتاريخِها. وستكُون نتيجةُ تِلك المراجَعَةِ اخْتِفَاءَ بِدْعَةِ التِّسْعَاتِ الأَرْبَعِ (99.99) اختفاءاً أبدياًّا لارِجْعَةَ فِيه. لأَنَّهَا عُنْوَانُ كُلِّ المَصَائِبِ والرَّزَايَا التي حَلَّتْ بالدولِ المُصَنَّفَةِ في قَائِمَةِ التَّخَلُّفِ بَجَمِيعِ دَلاَلاَتِهِ ومَعَانِيهِ، وأَشْكَالِهِ، وأَلْوَانِهِ.

وإذا كان لغير الدولِ الإسلامية عُذْرٌ في التَّخلُّفِ، وحُكْمِ البلادِ حُكْماً بِدَائِيّاً يَنْتَسِبُ إلى القُرُونِ الخَوَالِي، فَمَا بَالُ الدُّولِ الإسلاميةِ التي تَمْتَلِكُ رَصِيداً حَضَارِيّاً لاَمُنَازَعَةَ فيه، ومع ذَلِكَ تَنَكَّرَتْ لِمَبَادِئِهَا فأرَادَتْ أن ْ >تَتَدَمَقْرَطَ< لِتَلْحَقَ بِرَكْبِ الدُّولِ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ. فَقُلْنَا : الحَمْدُ للِه علي الدِّيمُقْرَطِيَّةِ، فَهِيَ بكُلِّ المقاييس أَفْضَلُ من الدِّكْتَاتُورِيَّةِ، ولَكِن مع الأسَفِ نَجِدُ أن جُلَّ حُكَّامِ العَالَمِ الإسلامِي يَتَعَامَلُ مع الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ تَعَامُلَهُ مع الإِسْلاَمِ، يَكْتَفُونَ من الإسلاَمِ بالشَّكْلِ والإِسْمِ، ومِنَ الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ بالعُنْوَانِ والرَّسْمِ. أَمَّا الحَقِيقَةُ فلاَ إسْلاَمَ ولاَدِيمُقْرَاطِيَّةَ.

اقْرَأْ تَارِيخَ الدُّوَلِ “المتقدمة” العَرِيقَة في النِّظَامِ الدِّيمُقْرَاطِيِّ ، فَسَوْفَ تَجِدُ أعْظَمَ رُؤَسَائِهِمْ شَعْبِيَّةً لاَيَحْلُمُ بِتَجَاوُزِ عَتَبَةِ السِّتِّينَ في المِائَةِ مِنَ الأَصْوَاتِ فِي أَحْسَنِ الحَالاَتِ، لأَنَّ ذَلكَ بِكُلِّ بَسَاطَةٍ يَحْكُمُ عَلَى الشَّعْبِ بالفَقْرِ المُزْمَنِ في الكَفَاءَاتِ، والإنْحِدَارِ نَحْوَ المَمَاتِ، أَمَّا بَعْضُ حُكَّامِنَا في المَغْرِبِ العرَبِيِّ وغيره فما زَالُوا يُحَقِّقُونَ المُعْجَزَاتِ، ولاَيَرْضَوْنَ بِأَنْ يَحكُمُوا البلادِ بِأَقَلَّ من الأَرْبَعِ تِسْعَاتِ، لأَنَّ كَرَامَتَهُمْ وعِزَّتَهُمْ تَأْبَى أن تكون في المشعب حَيَاةٌ تُكَسِّرُ هَذِهِ الأَرْقَامَ. وتَتَمَرَّدُ على الأصْنَامِ، فَذَلِكَ حُلْمٌ بَعِيدُ المنَالِ عن شَعْبِ تَحْكُمُهُ الزَّعَامَةُ المُحَرِّمَةُ للإِشْرَاكِ، والمُجَرِّمَةُ للْمُنَافَسَةِ، فَسُبْحَانَ المُتَفَرِّدِ بِالْعَظَمَةِ، الذِي يُمهِلُ مَن قَالَ فِيه رَسُولُهُ صلى الله عليه وسلم >إِنَّ شَرَّ الرِّعَاءِ الحُطَمَةُ<رواه مسلم] أَيْ المُحَطِّمِ لآمَالِهَا في التَّخَلُّصِ من نَيِّرِ الاِسْتِبْدَادِ والذُّلِ والهَوَانِ، والفَقْرِ، والجَهْلِ، والمَرَضِ، والتَّبَعِيَّةِ المُشِينَةِ.

والغَرِيبُ أَنَّ هَؤُلاَءِ يَعْرِفُونَ أَنْفُسَهُمْ أَنَّهُمْ مُفْتَرُونَ كَاذِبُونَ في ادِّعَاءِ الحُصُولِ على النِّسْبَةِ “الإجْمَاعِيَّةِ” من الأصْوَاتِ، ومُزَوِّرُونَ للنَّتَائجِ، وظَالِمُونَ لَشُعُوبِهِمْ المُسوقَةِ بالعَصَا والإرْهَابِ، ويَعْرِفُونَ أَيْضاً أَنَّ كُلَّ النَّاسِ يُكَذِّبُونَهُمْ مَحَلِّياً وعَالَمِيّاً، ومع ذَلِكَ يَتَمَادَوْنَ في “اللُّعْبَةِ القَذِرَةِ” التي لا يَلْعَبُهَا إلاَّ مَجَانِينُ العُقَلاَءِ، بِدُونِ حَيَاءٍ من الله تعالى الذِي يَلْعَنُ الظَّالِمِينَ والكاذِبينَ، ويُهَدِّدَهُمْ بالفَشَلِ الذَّرِيعِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ >أَلاَ لَعْنَةُ اللَّهِ على الظَّالِمِينَ الذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ ويَبْغُونَهَا عِوَجاً<سورة هود] >ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ على الكَاذِبِينَ<سورة آل عمران] >إِنَّ الذِينَ يَفْتَرُونَ عَلىَ الكَذِبَ لاَيُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ<سورة النحل]

إنَّ التِّسْعَاتِ الأربعِ تُعْتَبَرُ قِمَّةَ الضَّحِكِ عَلَى الشُّعُوبِ، وقِمَّةَ الاسْتِهْزَاءِ بِمُقَدِّرَاتِهَا وطَاقَاتِهَا ومَصَائِرِهَا، وقِمَّةَ الخِيَانَةِ للْمَسْؤُولِيَّةِ المُلْقَاةِ علَى عَاتِقِ الحُكَّامِ، والمُتَلَخِّصَةِ فِي الرِّفْقِ بالشُّعُوبِ، والسَّيْرِ بِهِمْ نَحْوَ الرُّشْدِ والكَمَالِ.

فَكَيفَ يُمْكن لشعوبنَا أن تتقدَّمَ في ظِلِّ الحِجْرِ والوِصَايَةِ، واحْتِكَارِ التَّوْجِيهِ والزَّعَامَةِ، والتفرُّدِ بالاختِيَارِ للنَّهْجِ السِّيَاسِيِّ واتخَاذِ القَرَارِ.

أَلَمْ يانِ لِزُعَمَائِنَا أن يَعْرِفُؤا أَنَّ الشُّعُوبَ كَبِرَتْ عَنْ قَمِيصِ الطُّفُولَةِ السِّيَاسِيَّةِ الرَّاضِيَةِ بالدِّكتَاتُورِيَّةِ، والأَبُوَّةِ الكاذِبَةِ، والحزْبِيَّةِ النفعِيَّةِ الهَرِمَةِ، والهَيْمَنَةِ الفكريَّةِ الغَارِقَةِ في التَّخَلُّفِ والتَّعَفُّنِ… وَأَنَّهَآ أَصْبَحَتْ بَيْنَ اخْتِيَارَيْنِ لاثَالِثَ لَهُمَا : إِمَّا تَفْصيلُ القَمِيصِ المناسبِ لحَجْمِ التَّطَلُّعَاتِ في عَصْرِ الغَزْوِ الإعْلاَمِي والفَضَائِيِّ لِكُلِّ البُيُوتِ والحُجُرَاتِ، وإِمَّا انتِظَارُ التمزُّقِ العَشْوَائِيِّ الهَادِرِ الجَارِفِ -لاقدر الله- وتِلْكَ الكارِثَةُ التي لَيْسَ لها من دُون الله كاشِفَةٌ. فالحذَرَ الحذَرَ من إحْوَاجِ الشُّعُوبِ للاِخْتِيَارِ المُدَمِّرِ >واتَّقُوا فِتْنَةً لاَتُصِيبَنَّ الذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً< سورة الأنفال].

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>