في زيارته الرسمية للقاهرة وقف الرئيس الفرنسي “جاك شيراك” ليعلن في محاضرته أمام أعضاء هيئات التدريس بالجامعة قائلا : “كل الاعتبارات تقضي بأن نظهر من جديد في القاهرة، ودمشق، وعمّان، وفي كل عواصم المنطقة.. كما كنا على الدوام في بيروت…”
ويقول “بادرت فرنسا لتبني لأوروبا جسراً باتجاه الجنوب…”
ثم قال شيراك : “وفي عام 1998م لن نكتفي بالاحتفال بمضي 200 سنة على تاريخ مشترك بيننا –”تاريخ الحملة الفرنسية عام 1798م بقيادة نابليون بونابرت”- ولكن نقول ما قاله ديجول من قبل.. لابد أن نظهر في المنطقة من جديد.. ولابد أن يكون عام 1996م عام الحسم).
المفكر الإسلامي الكبير الدكتور محمد عمارة يستنكر بشدة هذا الدجل السياسي المقيت.. ويقول : علينا أن نعلم أن الرعاية الفرنسية للمشروع الصهيوني قديمة وأصيلة.. وفي عام 1799م وعقب غزو نابليون لمصر عام 1798م.. ذهب بونابرت إلى الشام وخطب خطبة شهيرة وهو على أسوار (عكا) ووجه نداءه إلى يهود العالم أن يتحالفوا معه لإقامة الإمبراطورية الفرنسية الشرقية في مقابل إقامة دولة لبني إسرائيل… وهذا هو أول نداء استعماري غربي لتحالف الغرب واليهود.
ويضيف د. عمارة.. هذه الحقائق قد عرضتها في كتابي (إسرائيل هل هي ساميّة؟) واليوم يؤكدها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه القيم (الاتصالات السرية بين العرب وإسرائيل).
وبالنسبة للتأريخ لعلاقاتنا الثقافية المصرية – الفرنسية بالحملة الفرنسية يقول د. عمارة : نحن تماماً كمن يؤرخ لحياته باقتحام اللصوص لداره.. أو من تؤرخ لمجدها بانتهاك عرضها.. لأن الأمة التي تؤرخ لنهضتها باحتلالها.. أمة لا تستحق الحياة.. ولا تستأهل شرف النهضة أو اليقظة.
ثم إن هذا وضع مقلوب لنا كمصريين على وجه الخصوص… ففرنسا تحاول أن تستعيد دورها في المنطقة سياسيا وثقافيا وعسكريا.. والعلاقة الخاصة بين (الموارنة) في لبنان وبين فرنسا.. تحاول من خلالها أن تلعب دوراً في مستقبل لبنان والمنطقة العربية، وذلك من خلال نفخ الروح في (الفرنكفونية) الفرنسية، وفي هذا الإطار تم منذ ستة أعوام إنشاء جامعة (سنجور) في الإسكندرية بمصر لتدريب عملاء فرنسا على(فرنسة) الإدارة الحكومية، من خلال تخريج الكوادر السياسية والإدارية.
ويشير المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة إلى ما يؤكد هذه الرؤية في خطاب (شيراك) أمام هيئة التدريس بجامعة القاهرة في 7/4/1996م، حيث قال بكل وضوح : (كل الاعتبارات تقضي بأن نظهر من جديد في القاهرة، ودمشق، وعمّان.. وفي كل عواصم المنطقة.. كما كنا على الدوام في بيروت أصدقاء وأعوان)، مؤكداً بذلك ما قاله الجنرال (ديجول) عام 1958م.
وبوضوح أكثر.. يؤكد (شيراك)الرعاية الفرنسية العريقة للمشروع الصهيوني، فيقول : “الأمن يعني استكمال المسيرة السلمية، ولابد أن يكون عام 1996م عام الفصل… وذلك لأن إسرائيل الكبرى من خلال النصوص المقدسة سوف يتم إعلانها عام 1996م.. ويأسف د. عمارة للدور المصري في هذا الصدد قائلا : إنه دور شاذ، لأن مصر لم تكن مستعمرة فرنسية في يوم ما.. والحملة الفرنسية لم تجف دماؤها من أرضها بعد.. والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م مازال ماثلاِ في الأذهان.. وإذا كان استدعاء الدور الأوروبي لموازنة الطغيان الأمريكي سوف يتم بمثل هذه الفجاجة والسقوط.. فما هو إلا من قبيل الاستجارة من الرمضاء بالنار.
والتيار التغريبي واحد.. وهو في كل هذه (السفالات) يلجأ إلى كل الأوراق المعارضة للتوجه الإسلامي في مصر.. وإذا كانت حملة (بونابرت) على مصر (1213هـ – 1798م) هي حملة التنوير كما يدعي (المزورون) الجدد.. فعليهم أن يتذكروا أن حملة نابليون قد سبقتها الجواسيس من أمثال (دتوت) و(لالون).. وقبل أن يقدم نابليون و(النورة) الذين اصطحبهم، كان جواسيسه قد كتبوا إلى وزير بحريته الفرنسية تقريراً يقولون فيه (مطلوب من نابليون إذاعة منشور يطمئن الأهالي إلى أن الفرنسيين قدموا بوصفهم أصدقاء وحلفاء للسلطان، ومحررين لهم من ربقة المماليك)… فهل يختلف هؤلاء الجواسيس القدامى عن العملاء الجدد؟!
وعند هذا التغييب المتعمد لذاكرة الأجيال يقول الدكتور أحمد هيكل -وزير الثقافة المصري الأسبق- :أن يأتي الزمان الذي نحتفل فيه بمرور مائتين أو ألفين من السنوات على الحملة الدموية الصليبية الفرنسية الغاشمة على مصر.. كتدشين للعلاقات الثقافية بيننا وبينهم.. فهذا دجل وتلفيق وإخراج للأمور من أصولها.. ولا يمكن أن يقول به عاقل.. وهو هزل في موضع الجد.
وبسؤال الدكتور هيكل عن المجمع العلمي الذي أنشأه نابليون بمصر عام 1798م ولازال موجودا بها حتى الآن قال : إنه مجمع متهالك.. يهتم الدارسون فيه بالمصريات، شأنه شأن المراكز الثقافية الروسية والبريطانية والإيطالية الموجودة بمصر.. وكلها من توابع الاستعمار والغزو الثقافي.. لكن أدوارها لا تمثل شيئاً مذكوراً.
ويضيف د. هيكل : أنا أدعو الذين يتساقطون على الغرب كالذباب أن ينظروا إلى احتفال الإسبان في العام الماضي بمرور 500 سنة على طرد المسلمين من الأندلس.. كما أدعوهم إلى قراءة مذكرات المسيو (بورين) سكرتير نابليون الخاص، الذي يقول بالحرف الواحد في مذكراته : >كنتُ أتولى كل ليلة كتابة الأوامر بإعدام اثني عشر سجيناً من القلعة، وكانت جثث القتلى توضع في ركائب، وتغرق في النيل وكان كثير منهم من النساء ممن نفذ فيهن أحكام الإعدام الليلية(.. )بل وتخلصنا من الباقين برميهم بالرصاص دون أي إجراء قانوني سوى توقيع بونابرت).
فقبل مطبعة نابليون وعلمائه.. كانت السيوف والبنادق والصلبان والسجون.. وكانت رعاية اليهود.
- الجنون.. فنون
وحول التأريخ لنهضتنا الثقافية الحديثة بحملة بونابرت 1798م يقول الدكتور عبد الحليم عويس -أستاذ التاريخ والحضارة، والمفكر المعروف- : هذه سمسرة رخيصة.. ويجب أن نعلم، بعد أن ظهر كتاب الأستاذ محمد حسنين هيكل (الاتصالات السرية بين العرب واسرائيل) والذي أثبت فيه بالوثائق أن فكرة الوطن القومي لليهود قد ظهرت أول ما ظهرت في رأس نابليون ورجال حملته الملعونين.. ومن هذا التاريخ بدأت الفكرة تأخذ مداها، بالتعاون الوثيق بين العملاء من الداخل والأعداء من الخارج.
ويلفت د. عويس الأنظار قائلا : إن هؤلاء يخدمون أوطانهم، وليس في بالهم أياً من العملاء الذين يتعلقون بأحذيتهم.
وعلينا أيضاً أن نعلم أن فرنسا على وجه الخصوص هي >كنيسة أوروبا< وانظر إلى ما فعلته في الجزائر وغيرها من مستعمراتها.. إن تاريخ فرنسا في الجزائر صفحة من صفحات العار في تاريخ البشرية.. فلقد سفكت دماء مليون ونصف من الشهداء، وحوِّلت الكثير من المساجد إلى كنائس.. حتى أنها كانت تبني الكنائس بالقرى التي لا يوجد بها نصراني واحد إمعاناً في الحقد والعداء.
ويعجب د. عويس متسائلا : كيف يقدم هؤلاء الأذلاء رقابهم لأسيادهم قبل أن يُطلب منهم أداء هذا الدور، إن حملة نابليون عام 1798م هي التي أغلقت أبواب الأزهر بالمسامير.. بل وقتلت كبار شيوخه في يوم واحد من أمثال : الشيخ عبد الوهاب الشبراوي، والشيخ يوسف المصيلحي، والشيخ سليم الجوسقي، والشيخ أحمد الشرقاوي، وحملة نابليون هي الجنرال (بليار) الذي كان يقدم النساء لجنوده لاغتصابهن لرفع معنوياتهم، وحملة نابليون هي الخيل التي دخلت الأزهر في أول سابقة وحشية همجية من نوعها في تاريخنا الطويل، وحملة نابليون هي العمالة، والخيانة، والتجسس، والفتنة الطائفية في يَعقوب حنا، وبرطلمين، والمعلم رزق، وجرجس الجوهري… وبقية الأذناب.
وإذا تم هذا الذي طرحه (جاك شيراك) من احتفال بمرور 200 عام على هذه الحملة الصليبية اللعينة، فإن ذلك يقيم دليلاً قوياً جديداً من دلائل الانهيار العام لواقعنا العربي والإسلامي المعاصر.
واقرؤوا إن شئتم (ودخلت الخيل الأزهر) للموسوعي الثاقب الرؤية الراحل محمد جلال كشك -رحمه الله- ولكن للأسف.. الجنون فنون كما يقولون.
المجتمع 23/4/96 بتصرف