قال الله جلت حكمته : {هل اتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تاكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم قال فما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين فأخرجنا من كان فيها من المومنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الاليم وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين فتولى بركنه وقال ساحر او مجنون فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم وفي عاد إذ ارسلنا عليهم الريح العقيم ما تذر من شيء اتت عليه إلا جعلته كالرميم وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا حتى حين فعتوا عن امر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين وقوم نوح من قبل إنهم كانوا قوما فاسقين}
مسلك التخلق
الخُلق الرئيس الذي وردت به هذه الآيات هو خُلُق الخوف. الخوف بمعناه التعبدي، القائم على معرفة مقام الرب العظيم، الخوف النازل على القلب من شرفات اليقين. ففي التعقيب على مهلك قوم لوط قال تعالى فيما تدارسناه :{وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم}، وهو معنى جار في كل مصارع الأمم الأخرى، لأنه مفهوم من السياق الكلي، وإنما فائدة قصص المهلكين الترهيب والتخويف من عذاب الله، ومن مغبة عصيانه والتمرد على شرعه ودينه. ومن ثم كان الخوف مقاما إيمانيا من أجل منازل الإيمان، لا يوصف به إلا أهل اليقين من الأبرار الربانيين. وقد مدح الله أهله في غير ما موطن من كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. كما حكى سبحانه مقالة الأبرار إذ قالوا : {إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا}(الإنسان : 10)، وقال سبحانه : {وأما من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}(النازعات : 40-41)، وقال تعالى : {وخافون إن كنتم مؤمنين}(آل عمران: 175)، وقال جل جلاله : {ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}(إبراهيم : 41)، ونحو هذا وذاك في القرآن الكريم. والخلاصة أن الخائف من الله آمن في الدنيا والآخرة بإذن الله. آمن في الدنيا من نقمته تعالى ومن شر خلقه، وآمن في الآخرة من عذابه المقيم والعياذ بالله، ولذلك عقب على خوف الأبرار من اليوم العبوس القمطرير، فقال سبحانه : {فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا}(الانسان : 11).
إن الخوف من الله هو سبب السكينة والسلام، أما الخوف من غيره فهو سبب التعاسة والشقاء. ومن خاف الله وحده كفاه شر كل خوف.
والمسلك الأساس للتحقق بهذا الخلق العظيم هو :
أولا : تدبر قصص الهالكين في كتاب الله، ومطالعة أخبارهم مستحضرا أنها حقائق منزلة من عند الله، تتدبرها حتى تجد نفسك كأنك تراها، بل كأنك تعيشها وتحياها. وقد قرأت عن بعض الصالحين، أنه كان كلما قرأ قصة نوح في القرآن، ووقف على مشاهد الطوفان، شعر بالاختناق، وتتابع نبضُه، وضاقت أنفاسه، كأنما هو يغرق وذلك من شدة الاندماج النفسي مع حقائق القصة.
ثانيا : الاستيقان من ثبات سنة العقاب إلى يوم القيامة، كما بيناه، وتفسير كل الكوارث العالمية بها، دون شك ولا تردد، فلا شيء في ملك الله يتحرك بمفرده، أو يحدث بغير علمه وإذنه. فإنما هي مصائب منزلة من سمائه، على ميزان قضائه وقدره، يصيب بها من يشاء من أعدائه. وقد قال صلى الله عليه وسلم عن حجارة قوم لوط : {وما هي من الظالمين ببعيد}(هود : 83)، أي أنها معلقة على رؤوس الظالمين في كل زمان وفي كل مكان، تنتظر الإذن الإلهي، لتنهال عليهم بالعذاب. فلا تغتر بتحليلات أهل العمى.
ثالثا : السير في الأرض ما أمكن، لمشاهدة آثار الأمم البائدة، سواء ممن ذكرهم الله في كتابه، أو غيرهم. وكثير من آثارهم ما تزال باقية رغم آلاف السنين، شاهدة على سنة الله الجارية في الظالمين. قال تعالى : {قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين}(آل عمران : 137). وإنما الشرط في مشاهدة آثار المعذبين، أن يكون القصد الأساس هو التفكر والتدبر والاعتبار، واستحضار مشاعر الخوف والحزن والبكاء، كما بيناه بدليله في الرسالة السابعة.
ولا يجوز بأي حال من الأحوال السير إلى تلك الآثار وأضرابها بقصد الترفيه والاستجمام. وإنما هي مواطن للذكرى، وإنما تركها الله جل جلاله آية للذين يخافون العذاب الأليم، كما تدارسناه.
رابعا : معرفة أن هذه الأمة أيضا معرضة ـ في بعض أجزائها ـ لما أصاب الأمم البائدة، من الخسف والقذف والمسخ. نسأل الله النجاة والعافية برحمته. وهذه حقيقة إيمانية صحت بها الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :((يكون في أمتي خسف، ومسخ، وقذف(((1)، وفي حديث عمران بن حصين زيادة : (قال رجل من المسلمين : يا رسول الله متى ذلك؟ قال :((إذا ظهر القيان والمعازف، وشُربت الخمور(()(2)، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة : ((ثلاثة خسوف : خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب(((3)، والإنذار بالخسف والقذف والمسخ، حديث متواتر المعنى، فقد روي عن عدد من الصحابة منهم : أم المؤمنين عائشة، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وسهل بن سعد، وجابر بن عبد الله، وأبو هريرة، وسعيد بن راشد(4).
وقد علمنا بوقوع بعض هذا في السنوات الأخيرة، في بعض البلاد الإسلامية، وخاصة الخسف.
والخسف : زلزال عمودي، يجعل الأرض تسيخ بأهلها وعمرانها، فتبتلع ما عليها، وهو شر الزلازل والعياذ بالله. نسأله تعالى العافية. والعجيب أنه وقع اليوم فعلا في مناطق بلغ بأهلها الفسق والفجور حد الطغيان.
تلك مسالك أربعة من تحقق بمقتضياتها، وشاهد أيام الله من خلالها، رجا أن يهبه الله قلبا خائفا، فلا يأمن إلا في جوار الله، ولا يطمئن إلا بذكر الله. فذلك الذي يُرجى أن يكون من الناجين المرحومين، إن شاء الله.
فاللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، ونعوذ بك منك، لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
———–
1- رواه أحمد وابن ماجة، وصححه الألباني في تحقيق سنن ابن ماجه، والسلسلة الصحيحة والجامع الصغير.
2- رواه الترمذي، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، وصحيح الجامع، وصحيح الترغيب.
3- جزء حديث رواه مسلم.
4-ذلك مفصلا في السلسلة الصحيحة للألباني 392/4.