مـقـاصـد اللـبـاس(7)


 

د. حسن الآمراني

 

عود على بدء: المقاس 38 :

 

عنيت فاطمة المرنيسي في كتبها كثيرا بقضية المرأة، ولا سيما بوضعية المرأة في الشرق، متحدثة عن شهرزاد، وعن ((الحريم(( و((الحريم السياسي((، وباعتبارها عالمة اجتماع كانت تمزج الوقائع التاريخية بالواقع الاجتماعي المعاصر، وتجعل لسيرتها الخاصة نصيبا. وقد انتهت إلى أن في الغرب المعاصر أيضا ((حريما(( خطيرا، حيث يراد للمرأة ألا تكون سلعة فحسب، بل أن يتدخل الرجل في تفاصيل حياتها الجزئية، ويرسم لها الطريق الذي تسلكه، واللباس الذي تلبسه، والزينة التي تتزين بها. وقد صدمت عندما كانت في أمريكا، تبحث عن لباس بالمقاس الذي يناسبها، فلم تجد. دخلت عدداً من دور الأزياء، ودكاكين الملابس، وكل محل تتصور أنها تعثر فيه على بغيتها…هذا مقاس غير موجود…هناك مقاسات نموذجية، وعلى المرأة أن تمارس الرياضة، أو أن تقوم بجراحة تجميلية، من أجل أن تحول جسدها ليناسب ما تعرضه دور الأزياء، لا أنتتحول دور الأزياء إلى العناية بشريحة خاصة من الناس…فالمرأة الطويلة، أو المرأة البدينة، لا نصيب لها من تلك الدور. ولا طمع لها في الملابس الجاهزة… مأساة من مآسي الحضارة الغربية المعاصرة التي لم تكتف بأن تختار للمرأة ما تلبسه، من أشكال وألوان، فتكشف عن مواضع الفتنة فيها، من الصدر أو الظهر أو الساقين أو الذراعين، بل صارت تتحكم في حجم اللباس…

ونظرا للأهمية التي توصلت إليها هذه الباحثة، فإننا ننقل هنا ملخصا لفقرات من كتابها: (الحريم الأوربي)، من الفصل الذي جعلت عنوانه: (المقاس 38،حريم النساء الغربيات)

تقول فاطمة المرنيسي:

(فجأة أضاء لي لغز الحريم الأوربي، في ذلك الهيكل الاستهلاكي المتمثل في متجر نيويوركي كبير، عندما أعلنت البائعة أنها لا تملك لي تنورة مناسبة لأن كتفي عريضتان جدا.

((في كل هذا المتجر، الذي يفوق بمائة مرة بازار إستنبول، لا توجد تنورة تناسبني؟ لا شك أنك تمزحين!((.

شككت في أن تكون هذه الشخصية المتأنقة كسولة.هذا أمر يمكنني فهمه. ولكنها تابعت في إلحاح:((أنت ضخمة جدا…((

- أجبتها وقد صوبت إليها نظراتي: ((أنا ضخمة جدا قياسا إلى ماذا؟(( لقد شعرت أن بيني وبينها خندقا ثقافيا حقيقيا.

وتابعت، متشجعة بنظراتي المتسائلة ، وكأن صوتها يحمل فتوى: ((قياسا إلى المقاس 38.إن مقاس 36 و 38 هو المقاس الأكثر تداولا، أو لنقل إنه المقاس المثالي.المقاسات الخارجة عن النموذج، ولاسيما مثل مقاسك، لا توجد إلا في متاجر متخصصة.((

إنها المرة الأولى التي أسمع فيها هراء كهذا.

((من قال إن الجميع يجب أن يكون مقاسه 38؟((، قلت ذلك بشيء من السخرية، متعمدة تجاهل الرقم 36.

نظرت إلي البائعة في شيء من الاستغراب وتابعت قائلة:((إن المقاس المثالي هو ما نجد في كل مكان، في المتاجر الكبرى، وفي التلفزيون، وفي الإشهارات…كل المتاجر تلتزم بالنموذج، ولو أنهم يبيعون المقاسات التي بين 46 ـ 48، إذن لأصابهم الإفلاس((.

سألتني: ((من أي بلد أنت؟((.في تلك اللحظة انتبهت إلى أنها في مثل عمري تقريبا،هي أقرب إلى الستين منها إلى الخمسين.غير أن لجسمها نحافة صبية في السادسة عشرة من عمرها..كأنها تلميذة..

أجبتها:((أنا من بلد ليس للثياب فيها مقاس محدد.أشتري القماش، ثم إن الخياطة أو العاملة المجاورة تخيط لي التنورة أو الجلابة التي أريد. لا نعرف مقاسي، لا هي ولا أنا. في المغرب، لا أحد يهتم بذلك، ما دمت أدفع الضرائب.بالفعل، لا أستطيع أن أدلك على مقاسي.إنني أجهل ذلك تماما.(( سألتني:((أتريدين القول ببساطة إنك لا تــَــزِنين نفسك؟هنا، فقد عدد من النساء عملهن بسبب ذلك((.

لقد كانت تمزح،ولكن ملاحظتها كانت تخفي حقيقة مرعبة. لقد كان سوط الحقيقة يجلدني: إن المقاس 38 يمثل قيدا أشرس من أثخن نقاب…

إن الأسلحة التي يستعملها الرجال ضد النساء في الغرب غير مرئية..إنهم لا يلزمون أي امرأة على التشكل بالصورة المثالية، ولا أن تلبس المقاس 38 برصد الشرطة خلفهن، كما يصنع آيات الله حين يرصدن اللائي ينزعن الشادور. إنهم لا ينبسون ببنت شفة.غير أنه في الوقت الذي تريدين اقتناء تنورة على مقاسك يصرحون بأنك وحش. إنهم يتركونك تجترين مرارتك وحدك. يرغمونك على تحليل وضعيتك، لتنتهي إلى الخلاصة التي يريدون: إن الشيخوخة فعل مدان.((إذن، لقد انتهيت إلى أن أصبح دينصورا منقرضا((.حقا، لم أشعر أنني قبيحة فقط، بل غير موجودة،في متجر (الموضة) هذا، حيث يدفع بي منكباي العريضان إلى الخروج.كانت الأضواء مسلطة على المقاس 38، وأنا، المرأة الناضجة، كنت ممحوة. لقد انحرفت مرغمة نحو العدم.لقد صار هذا الحريم منقوشا في اللحم، كأن السنوات الهاربة سجلته بالحديد الأحمر.إننا لا نستطيع الإفلات منه….

إن العنف الذي يؤسس الحريم الغربي لا يُرى إلا بصورة خفيفة، لأنه يتقنع تحت مقاييس جمالية.إنه كأقدام الصينيات: لقد قرر رجال الصين أن أجمل النساء هن اللواتي يملكن أصغر الأقدام، أقدام الأطفال. ومن هنا صارت الفتيات يقيدن أقدامهن من أجل الحفاظ على المقاس المثالي. كن ينتعلن الحديد.وكذلك نساء الغرب، صار عليهن العناية برقة مناكبهن من أجل إثارة إعجاب الرجال.إن النساء المسلمات يصمن شهرا واحدا في العام.أما الغربيات فيصمن اثني عشر شهرا في السنة.يا للرعب!!قلت ذلك لنفسي وأنا أتأمل كل أولئك الأمريكيات اللائي حرصن على أن يكون مظهرهن مظهر الصبايا الصغيرات.

إن الإنسان الغربي يملي على المرأة القواعد التي تتحكم في هيئتها البدنية. إنه يراقب كل صناعة (الموضة)..وفي الحقيقة، إن الغرب هو المنطقة الوحيدة في العالم حيث لباس المرأة صناعة رجولية خالصة… إن ذلك ما يسميه بورديو: ((العنف الرمزي((…

قلت في نفسي وأنا في الطائرة التي كانت تعود بي إلى الدار البيضاء: ((حمدا لك يا رب على أن أنقذتني من حريم المقاس38).(1)

وكذلك سيكون من الطبيعي الدعوة إلى (عولمة اللباس)، بعد (عولمة الاقتصاد) و(عولمة القيم)…وليست العولمة غير الأمركة على وجه التحديد، أو هي التغريب في أحسن الأحوال، لذلك فلا مجال مع العولمة لخصائص الشعوب وعاداتها وقيمها وثقافتها، ومن تلك الثقافة ثقافة الملابس، ومن هنا فإن ظاهرة (الإسلاموفومبيا) تتخذ عدة صور منها: (الحجاب فوبيا)…وهكذا تنقل لنا وسائل الإعلام باستمرار وقائع تدل على (الحجاب فوبيا)… وفيما يلي واقعتان تدلان على (الحجاب فوبيا) من الوقائع التي حدثت أخيرا: الواقعة الأولى تتعلق بمروة الشربيني، وقد حدثت في ألمانيا.

———

1- من كتاب (الحريم الأوربي):صفحات من الفصل الذي عنوانه:المقاس38،حريم النساء الغربيات.

LE HAREM FATEMA: EUROPEEN MERNISSI

20 Editions le Fennec

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>