إطلالة على مفهوم الإصلاح في القرآن الكريم(2)
الـمعـنى الثـالـث:
قولهم في اللغة: “أصلح” الشيءَ أزال فساده. ونصّ عليه الراغب الأصفهاني، وهو أصح وأدق من قول من قال: جعل الفساد صالحا كما جنح إلى ذلك ابن عاشور.
والتحقيق أنه ينبغي هاهنا التفريق بين إسناد هذا الفعل إلى الله تعالى وإسناده إلى الإنسان. وبالنظر إلى هذا الفرق يتضح بجلاء أن الذي يقدر على جعل الفساد صلاحا أو الفاسد صالحا هو الله تعالى وحده. أما الإنسان فحده أن يقوم بالعمل الصالح الذي يزاحم العمل الفاسد.
وقد تنبه الراغب الأصفهاني رحمه الله تعالى إلى تلك الخصوصية في حق الله تعالى فقال: “وإصلاح الله تعالى الإنسان يكون تارة بخلقه إياه صالحا وتارة بإزالة ما فيه من فساد بعد وجوده، وتارة يكون بالحكم له بالصلاح قال } وأصلح بالهم } – يصلح لكم أعمالكم – } وأصلح لي في ذريتي}
فقد اطرد أن الفعل “أصلح” إذا أسند إلى الله تعالى فإنه يذكر معه مفعوله:
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ….. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} (محمد: 1- 2).
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} (الأنبياء 90-91).
{قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}(يونس 81).
{يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (الأحزاب 71-70).
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا….. وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (الأعراف54- 56).
وتأمل في الذكر الحكيم، فإنه قال: }ولا تفسدوا في الأرض} ولم يقل ولا تفسدوا الأرض، فإن الإنسان مهما بلغ إفساده فإنه لا يستطيع أن يغير القوانين الثابتة للأرض وغير الأرض. ولكنه يمكن أن يوقع فيها الفساد. وهذا مطرد في القرآن الكريم: “الإفساد في الأرض”.
وقد وضع الله تعالى السنن والقواعد الضابطة الحامية للأرض من الإفساد العام فقال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (البقرة 252).
{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} (المومنون 71)
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}(الأنبياء 22)
بينما ترى إصلاح الأرض بالكلية مسندا إلى الله تعالى لأن له الخلق والأمر.
بينما حين أسند إلى الإنسان فإنه ذكر مجردا عن المفعول أي عن المحل الذي يقع فيه الصلاح.
{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في آيات متعددة..
{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} (النساء 16)
}… إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا…….} (البقرة 160)
{وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (الأعراف 142)
{وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} (الشعراء 152)
والأمثلة متعددة.
وهاهنا فائدة نختم بها الكلام في هذا المعنى الثالث: هي أن الإصلاح لا يتصور بمجرد زوال الفساد، وذلك لأن زوال الفساد لا يتصور في الواقع إلا بصلاح يزاحمه في المحل. فالمسألة صراع بين الحق والباطل وبين الصلاح والفساد أيهما يحل وأيهما يخرج. وهاهنا لابد من تقويم مقولة شائعة وهي: “التخلية قبل التحلية”، فالصواب أن التخلية تكون بالتحلية. }وقل جاء الحق وزهق الباطل}. وليس عبثا أن يطرد في القرآن الكريم كله تقديم الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر. فافهم.
ولعل من أهم ما يسند هذا المعنى أن الإصلاح عطف على التوبة في كثير من المواطن، تنبيها على أن منطقة الفراغ لا توجد في الواقع والنفس. وقد ذكر ابن القيم في المدارج عن الشافعي رضي الله عنه قال: صحبت الصوفية فما انتفعت منهم إلا بكلمتين سمعتهم يقولون : “الوقت سيف فإن قطعته وإلا قطعك” و”نفسك إن لم تشغلها بالحق وإلا شغلتك بالباطل”.
الـمعـنى الـرابـع:
قالوا: “أصلح بينهما أو ذات بينهما أو ما بينهما : أزال ما بينهما من عداوة وشقاق.
وهذا المعنى وارد في مواضع من القرآن الكريم، وهو الذي يتجلى فيه امتداد الصلاح والإصلاح من ذات الإنسان إلى غيره. ويأخذ هذا الامتداد قيمته الخاصة في العناية أساسا بالجسم المسلم والسعي -متى قامت الحاجة- إلى المبادرة برأب الصدع ولمِّ الشمل سواء على مستوى النواة المجتمعية الأولى وهي الأسرة، أو على مستوى المجتمع كله.
- يتضح من تتبع الترتيب الزمني للنزول أن لفظ الإصلاح ضُمِّن معنى خاصا في الفترة المدنية، وهو ما يتعلق بإصلاح ذات البين ابتداء بالنواة الأولى وهي الأسرة، وانتهاء بجسم الجماعة المسلمة.
فنلاحظ أن لفظ الإصلاح جملة تأخر ذكره في ترتيب النزول حتى نزول سورة الأعراف وهي التاسعة والثلاثون في ترتيب النزول، وابتداء من هذه السورة إلى السورة الثالثة والسبعين، تركز الحديث باستعمال لفظ الإصلاح في القيام بالعمل الصالح في الذات وفي المحيط.
وأما بعد ذلك في الفترة المدنية وابتداء من السورة السابعة والثمانين في ترتيب النزول وهي سورة البقرة، فقد بدأ استعمال لفظ الإصلاح في امتداده إلى العلاقات. فجاءت هذه الآيات:
- في السورة: 87- }… فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة 182)
- وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ..} (البقرة 220)
- {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاس..} (البقرة 224)
- وفي السورة: 88- }.. فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ..} (الأنفال 1)
- وفي السورة: 92- {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ..} (النساء 35)
- {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ …} (النساء 114)
- {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ….. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}(النساء 128)
- وفي السورة: 106- }وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ..}(الحجرات : 9).
- وفي الحديث الصحيح عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة قالوا بلى قال : إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة”.
من علاقات الإصلاح في القرآن الكريم:
- التقابل بين التجبر والإصلاح:
{فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ} (القصص : 19).
- التقابل بين الإصلاح والاستكبار:
{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} (الأعراف 35)
من قضايا الإصلاح في القرآن الكريم:
- من موجبات نجاح الإصلاح في النفس وفي الغير:
- التوكل على الله تعالى وحده واستشعار التوفيق منه. }إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} (هود : 88).
{قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (الأحقاف : 15).
- مرجعية إصلاح البلاد والعباد ينبغي أن تكون من الثقات المصلحين لا من المفسدين:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} (الشعراء 152) ، }وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} (البقرة 12)
- من ثمرات الإصـلاح:
- تحقيق الأمن في الدنيا والأخرى }فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ…} (الأنعام 49) }وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} (هود : 117).
- وتحقيق التوبة والمغفرة والرحمة: }فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(المائدة : 39) }كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}(الأنعام : 54).