أزمة الوعي العربي بالـمسألة اللغوية(1)
عن دار الكتاب الجديد المتحدة صدرت الطبعة الأولى في يناير 2011 لكتاب : “العرب والانتحار اللغوي” للدكتور عبد السلام المسدي الأستاذ الجامعي التونسي والمتخصص في العلوم اللغوية، الذي شغل مناصب علمية تعليمية وأخرى سياسية، فجمع بين الأدب والفكر والسياسة.
والكتاب الذي نروم تقديمه للقراء الكرام -عبر حلقات- من أمتع كتبه أسلوبا وأعمقها نظرا وأشدها لهجة وحاجة، جمع فيه بين حقائق العلم ومفارقات السياسة، في تحليل جمع بين الرصانة وبين النقد اللاذع المباشر أحيانا والسخري المثيرـ وبين التوصيف الذكي والتعنيف الخفي.
وقد جاء الكتاب في حوالي أربعين ومائتي صفحة، انتظمت أفكاره في أحد عشر فصلا هي:
الفصل الأول: الحقيقة الغائبة
الفصل الثاني: المأزق التاريخي
الفصل الثالث: اللغة والسياسة
الفصل الرابع: اللغة والهوية
الفصل الخامس: محاربة اللغة العربية
الفصل السادس: العربية وبقايا الفرنكوفونية
الفصل السابع : اللغة والعمل العربي المشترك
الفصل الثامن: التلوث اللغوي
الفصل التاسع: تسليع اللغة وحصار الإعلام
الفصل العاشر: اللغة والديمقراطية
الفصل الحادي عشر: أوهام التأويل
فضلا عن مقدمة وفهارس للكتب والأعلام الواردة في الكتاب، وفهرس المحتويات
وقبل أن أبدي أي وجهة نظر أخرى في مضمون الكتاب دعني أنتقي بعض من أقواله من الفصل الأول :
- لتعلم معي منذ البدء أن اللغة أمر جلل، بل لولا خشية المظنات واتقاء انفلات التأويل لقلنا إن اللغة أجل من أن تترك بيد السياسيين.(ص.7)
- لكأن ما يتحدث عنه فلاسفة السياسة وفقهاء الفلسفة، فيسمونه بالعطالة التاريخية، لم يصدق على أمة يوما كما يصدق على أمة العرب منذ نصف قرن.(ص.8)
- وبين السياسة والاقتصاد والثقافة ينبثق جامع أكبر سيكون هو الشاهد الجامع لكل واجهات العطالة التاريخية، إنه مأزق اللغة العربية على أيدي أهلها وأبنائها.(ص,9)
- إذا أدرنا مجهر الأضواء صوب القضايا اللغوية دون سواها من القضايا الأمهات ألفينا أنفسنا وجها لوجه أمام خاصية أخرى من الخصائص الراسمة لحالتنا العربية، ومدارها أن أمة العرب اليوم ـ بين أولي الأمر السياسي فيهم وأولي الشأن الفكري أيضا ـ غائبون أو كالغائبين عن محفل الحقائق العلمية الجديدة في مجال المعرفة اللغوية.( ًص. 10)
- من أبرز الحقائق العلمية الغائبة عن الوعي العربي ما يتصل بموضوع “حياة” اللغة من حيث عواملُ بقائها ودوامها أو أسباب اضمحلالها وانقراضها.(ص.10)
- وبناء عليه تتم الدعوة إلى إنشاء “محميات لغوية” شبيهة بمحميات الفصائل الحيوانية. (ص.12)
- فهل نحن العرب معنيون بمسألة موت اللغات؟ وهل اللغة العربية تخوض الصراع مع لغة إنسانية أخرى؟ فإن هي تخوضه أفَتَرْقى المواجهة إلى الحد الذي يصح أن نتحدث فيه عن حرب لغوية؟ ثم هل اللغة العربية تواجه من التحديات ما يهددها في وجودها، أو ينذر بامحائها إلى حد الزوال؟ (ص.12)
- الوعي المعرفي في هذه القضية غائب أو كالغائب في ساحتنا العربية بوجهيها السياسي والفكري، ونكاد نجزم بأن الحوار فيها لن ينفع مع رجال السياسة إلا مع من كان منهم معضودا بزاد فكري مرموق، ولن ينفع مع رجال الفكر إلا إذا كان مسنودا في تجربته المعرفية العامة بثقافة سياسية متينة. وسنتبين كيف أن غياب الحقائق يفضي إلى تعطل القدرة على استشراف التاريخ…(ص.13)
- في سنة 1990 أصدر فلوريان كولماس باللغة الألمانية كتابه : “اللغة والاقتصاد” وترجم بعد سنتين إلى الإنجليزية، ثم صدر عام 2000 مترجما إلى اللغة العربية في سلسلة عالم المعرفة وقد تضمن (ص14-16) لمحة موجزة عن (موت اللغات)… وجملة الإفادة التي تخص سياقنا هذا ما يعرضه من ناموس في (صراع البقاء) في المجال اللغوي، وكيف يرتبط بحركات الهجرة الطوعية أو التهجير القسري وينتهي إلى تأكيد الحقيقة الجديدة، والتي تتمثل في أن لغات العالم في تناقص عددي مطرد. وفي أثناء ذلك يقدم المؤلف إشارات تتعلق بالمصطلحات المستخدمة في معالجة موت اللغات فيوازن بين تصورين مبدئيين: اعتبار الظاهرة وليدة إرادة البشر المتكلمين بالغة من جهة، واعتبارها لصيقة بخصائص اللغة في ذاتها من جهة أخرى، وعلى هذا الأساس يكرس للحالة الأولى عبارة اغتيال اللغة، وللثانية عبارة انتحار اللغة.(ص.13)
- وسترى ـ أيها القارئ ـ كيف تصور لك صفحات كتابنا هذا حالة أخرى غير هذه وغير تلك، وذلك حينما لا يكون المغتال طرفا خارجيا، وحينما لا يكون في منظومة اللغة ما يجعلها تهترئ فتتفكك وتنحل حتى نتحدث عن انتحارها، وإنما يتعمد أهل اللغة إطفاء رحيق لغتهم كما لو أنهم يئدونها وأدا بطيئا فيكونون هم المنجزين للانتحار اللغوي من حيث ينحرون لغتهم.(ص13- 14)
- وفي 2001 أصدرت دار العلوم الإنسانية في باريس ـ باللغة الفرنسية ـ كتابا انتدبت إليه ثلة واسعة من المتخصصين في العلوم اللغوية والعلوم التي تتوالج معها في الأبحاث المتصلة بظاهرة اللغة، واتخذت له عنوانا فسيحا: “اللغة: طبيعتها وتاريخها وتداولها: النظريات اللسانية ـ المجادلات ـ الأصول ـ الرهانات” فجاء كالموسوعة التي إن لم تتضخم حجما فإنها تختصر المسافات العلمية بإيغالها في الجوانب المعرفية الدقيقة… يهمنا من كل المشاهد التي نسجت ألياف هذا الإنجاز ما أصبح كالحقيقة العلمية القاطعة، وهو أن عدد اللغات البشرية في تناقص، وأن التواصل الثقافي بين البشر جميعا ما انفك يدفع بظاهرة اندثار اللغات نحو تخومها القصوى. (ص.14)
- وفي فصل بعنوان: “علينا أن ننقذ التنوع اللغوي” يتم تأكيد الناموس الجدلي الجديد، والذي فحواه أن البشرية فيما سلف من تاريخها شهدت تكاثر الألسنة عن طريق التولد التناسلي الذي تظهر فيه لغات جديدة بعد أن تموت لغات أخرى، وذلك على أساس أن الذي يتولد يفوق ما ينقرض، أما الآن فإنها تشهد اندثار اللغات دون أي حظوظ في توليد لغات جديدة (ص.14)
- في ذاك الكتاب ـ ذي السمة المعرفية والموسوعية معاـ شارك العالمان اللسانيان كلود حجاج، ولويس جون كالفاي، فأما الأول فهو الذي أطلق صيحته المدوية في الكتاب الذي أصدره عام 2002 بعنوان “ضعوا حدا لموت اللغات”، وأما الثاني فقد أصدر في نفس السنة كتابه: “سوق اللغات: التأثيرات اللغوية للعولمة”، وإليه يرجع ترويج عبارة الحروب اللغوية منذ أصدر عام 1987 كتابا بعنوان”الحروب بين اللغات والسياسات اللغوية” ولذلك تم انتدابه لافتتاح الكتاب الجماعي الذي أصدرته سلسلة بانوراميك عام 2001 بعنوان “اللغات: حرب حتى الموت”(ص14 و15).
- بم نخرج من هذا الزخم العلمي البالغ التخصص؟ (ص.15)
- لنعلم.. أن عدد اللغات في العالم اليوم لا يقل بأي صورة من الصور عن أربعة آلاف لغة…( ص.15)
- لنعلم… أن عددا هائلا من اللغات يموت بمعدل 25 لغة كل عام، وقد بات ثابتا لدى العلماء المتخصص أن 600 لغة في العالم قد أخذت طريقها التدريجي نحو الانقراض، وأن النسق الحالي لمجريات الأمور سيفضي خلال القرن الواحد والعشرين إلى اندثار ما لا يقل عن 3000 لغة. وقد بين الباحث الروسي ألكسندر كبريك أن 130لغة في روسيا قد أخذت طريقها نحو الانقراض بما يكاد يكون نهائيا. (ص.15 و16)
- ولا يفوتنا أن ننبه أن العلماء المختصين منزعجون أيما انزعاج من هذا المشهد اللغوي في الواقع الإنساني قاطبة، وبصرف النظر عن دوافع الحنين أو بواعث الحمية فإن هؤلاء العلماء يتحسرون على ظاهرة الانقراض من موقع العلم الخاص، فكل لغة تموت تحرمنا من اكتشاف نسق محدد ومخصوص من منظومات العقل البشري..
- إنها نبذة من الحقائق العلمية التي نراها غائبة عن الوعي العربي العام وبغيابها تتعطل قدرة الاستشراف لديهم… ما عسى أن تعني تلك الأرقام حول اللغات في نفوس أهل الشأن الجماعي في الوطن العربي؟ وهل كشفها كفيل بأن يستزرع لدى النخب الفكرية والسياسية وعيا بالحالة اللغوية التي عليها العرب، أو بالمآل التي ستصير إليه لغتهم العربية؟ (ص.16)
- كانت الحقيقة العلمية بمثابة صفارة إنذار هزت الوعي الإنساني المتيقظ فقد انتبه الكنديون لتقرير نشرته مؤسسة الإحصاء الكندية عام 1998 مفاده أن 47 لغة من بين الخمسين المتداولة في كندا قد أخذت طريقها نحو الاندثار. وانتبه الألمان إلى أن لغتهم تتدحرج على سلم الأولويات بحيث تتأخر رتبتها بين العشر لغات الأكثر شيوعا في العالم…( ص.16)
- والمهم أن مؤسسات العمل الدولي قد تجاوبت مع الحقائق العلمية المقررة، فمنظمة اليونسكو قد أعلنت عن برنامج سمته اللغة الأم واتخذت له يوما عالميا هو 21 فبراير من كل عام… وقد حددت اليونسكو هدفها من كل ذلك وهو حماية 6000 لغة إنسانية من الاندثار… (ص.16 و17)
كانت هذه مقتطفات من كلام الدكتور عبد السلام المسدي في الفصل الأول المعنون ب” الحقيقة الغائبة” والتي رام من خلاله إبراز أزمة الوعي بالمسألة اللغوية لدى العرب والفجوة الكبيرة التي بينهم وبين الحقائق العلمية في الدراسات اللغوية من جهة أولى، ومن جهة ثانية الفجوة التي بينهم وبين الأمم التي ما انفكت تتجاوب مع صيحات العلماء في التحذير من انقراض اللغات واندثارها وتحذر من شراسة الحروب المعلنة على اللغات فاتخذت هذه الأمم إلا أمة العرب وسائل عملية وسياسات وقائية لحماية لغاتها. فهل يعي العرب أزمتهم ؟ هل يتجاوبون مع الحقائق العلمية وقوانينها؟
-يتبع-