لست أدري لماذا حين أذكر الشرق، أو أذكر الصحراء، أشعر بخيط نوراني يربطني بالسماء. أو كأن الصبا تهب علي فتنفحني بدفق متجدد من أجل الحياة. من الشرق أتى كل شيء جميل. ومن الصحراء انطلقت ملائك تحلق بالأرواح عاليا منذ الأزل.
حين أذكر الشرق والصحراء، تهب علي نفحات صوفية من تخوم أولئك الشعراء الذين مازلت وفية لمحبتهم على تصاريف الزمان. أحد هؤلاء شيخ القصيدة الصوفية الرسالية حسن الأمراني.الشاعر الذي طاف البلاد شرقا وغربا. من نهر الكانج حتى نهر التايمز. هل يدري هذا الشاعر أنه كان في تطوافه يحمل في جبته أرواح مريديه من الشعراء؟. هو الشاعر الذي ينتمي إلى جيل الهزيمة والنكبات؛ لكنه ظل مصرا على أن يطلق صيحة ولو كانت نفخة في رماد، لكن هل يعلم حسن الأمراني أن صيحته هزت قلوب محبيه وترجمت ألقا في حروفهم؟.
هو الشاعر الذي سئل يوما عن الغربة فردد ما ردده المتنبي حين قال:”إن النفيس غريب حيثما كانا”. وحين سئل عن الإبداع في علاقته بالحرية رفع صوته قائلا:”إما أن تكتبوا أدبا تتحقق فيه الجمالية والرسالية، وإما أن تصمتوا، لأن الصمت أشرف من الغثاء الذي يزكم الأنوف في ساحاتنا العربية”. ثم يواصل: “التبعية شر محض، والمثاقفة خير محض. والانغلاق لم يعد ممكنا. لا بد من تحقيق التوازن مع الذات،”.
هل كان يدري الشيخ حسن الأمراني أن مريديه حفظوا وصاياه فكان لا بد لهم من أن يصونوا النفاسة والغرابة والرسالية والجمالية. وأن يحاربوا التبعية والغثاء والانغلاق؟. ها أنت يا شيخي قد سننت فينا سنة رائعة لن تبلى ما بليت أجسادنا…
شيخ هذه المدرسة شكل رؤيته للشعر من خلال قراءته الثرة لدواوين الشعر قديمه وحديثه، فانسجمت رؤيته إلى القصيدة مع تربيته وثقافته ليقول:”إن كل ما هو إنساني إسلامي، لم تعد تعنيني التصنيفات الأدبية؛ المهم أن أكون صادقا مع نفسي ومع أمتي ومع الناس”.
هل يدري حسن الأمراني أنه ممن علمونا أن نكون صادقين في كتاباتنا، لأنه ببساطة كان منظرا لأدب الصدق في كل كتاباته ودواوينه التي تربو على العشرين.
حسن الإمراني الإنسان الذي أعرفه كأدبه. وأدبه صورة عن جوهره، فهو رجل الفطرة والنقاء والبساطة والعمق والصدق والحياء. ينسجم ظاهره مع باطنه، وينعكس داخله الوضيء على محياه وأفعاله.
مواقفه في الحياة هي مبادئ مدرسته الشعرية العميقة،الينابيع الصافية في غرابتها، الغريبة في نفاستها، الحرة، المنفتحة، المعتدلة، والتي أصرت على أن تثبت ذاتها في توازن وشموخ.
في مدرسة شيخي الكبير، شيوخ كثيرون. ما أعظم أثرهم في نفسي. هم الذين فتحوا الشرق على فاس حيث أنا، لتهب علي نسائمه الشعرية حرة دفاقة، ولتعبد أمامي الطريق التي قصدت على قصدها.
شيخي حسن الأمراني من أولئك الأساتذة الذين لم يربطني بهم جرس مدرسة ولا أسوارها، ولكن القدر العظيم وضعهم في طريقي ليشكلوا مدرستي في الشعر وفي الرؤية وفي الحياة. وليكونوا القطب الذي مارس علي جذبه الرائع…
حسن الأمراني من أولئك الذين علموني كيف أفكر في القصيدة وكيف أنسج رداءها، وكيف أخط جدد مجازاتها. وحسن الأمراني من شيوخ هذه المدرسة الصامتين الناطقين الذين رقموا على رخام الذاكرة ومرآة القلب وصاياهم فنبتت خلفهم أقلام كأنها الرجال في هاماتها. وله الفضل في كونه أحد المؤسسين لمدرسة صوفية رائدة حبوت نحوها ذات مساء وأنا أقول:
“حدثني قلبي المفتون بآيات الشعراء
أن الحبر المعصور من الشجر المجتث غثاء وهباء
قال الأمراني: أدخل من باب الحبر بساتينا من كلمات
فعسى يقع القلب بها بين رياض دمثات
وعسى تبصر وجهه فيها نبع ضياء
رد الرباوي: كيف؟ والبستان بعيد بعدي عني
لن يصل القلب إليه إلا عبر مجاهل هذي الصحراء
فأجبت ووصايا الشيخين تشق الطين إلى نصفين
وتشق الحبر إلى بحرين
وتشق الخطو إلى نجدين
سأسن من الحرف الفرع الثابت في العلياء
فعساني أفتح بعدكما مقامات رضى وبساتين بهاء
وعساني أذبح بالحرف مناة الذلة فينا
ما الذي يبقى من الحرف؟
ما الذي يبقى من الحرف إذا لم يتوضأ بمياه العز ونيران إباء”.
تراني يا شيخي هل كنت وفية لأنوار الشرق وأنداء الصحراء التي هبت علي من هنا، من وجدة، ذات مساء؟. تراني هل كنت سأهيم في كل واد لو لم تمتد أياديكم نحوي بتوفيق من رب السماء؟
الأستاذة الشاعرة أمينة المريني
عضو المكتب التنفيذي لاتحاد كتاب المغرب
———-
* نص الشهادة التي ألقتها الأستاذة أمينة المريني في حفل تكريم الشاعر الأديب الدكتور حسن الأمراني الذي نظمه اتحاد كتاب المغرب بمدينة وجدة بتاريخ 30 أكتوبر 2014.