قال تعالى : {يَا أَيُّهَا النّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكُمْ وشِفَاءٌ لِمَا في الصُّدُورِ وهُدًى ورَحْمَةٌ للْمُومِنينَ}(يونس : 57).
فالمقصُود بالموعظة : القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على الرسول الكريم تكرمةً له صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده إلى يوم القيامة، فهو الكتاب الخالد الذي خَلَّدَ ذِكْر الأمة الحاملة لرسالة الخلود في جنة الرضى والغفران، التي اختارها الله عز وجل رِفْعَةَ مَقَامٍ وحُسْن مثوبةٍ للمُكرَمين من عباده، الشاكرين لفضْل نعمائه.
فالقرآن الكريم سُمِّيَ موعظة لأنه يعظ الإنسان بتعريفه بقَدْرِ نفسه حتى لا يزيغ فيهلك، أو يطيش عن مساره الصحيح فيشقى، كما يعظه بتعريفه بقدْرِ ربِّه الذي خلقه بشراً سويّاً، وسخَّرله الكَوْن كله ثَمَراً جَنِيّاً، وتكفّل له بالحياة الرَّضِية الهَنِية إن هو ارتضى السَّيْرَ على النّهْج المُبين، حاملا لواء الحمد والشكر بين العالمين، لله رب العالمين.
وهل هناك موعظةٌ أبلغُ من أن يعرف الإنسان قَدْرَ نفسه وقدرَ ربه؟؟ وهَلْ هناك جَهْلٌ أفْحَشُ وأغْلَظُ من أن يتعدى الإنسان قدْرَه فيسْطُوَ على مقام الربوبية، وينتحِل صفاتِ الخالقِ الأعظم، والمهيمن الأكرم، ويقول للناس -بكل سفاهة ووقاحة- كونوا عباداً لي من دون الله ولم يُطْلع لهم شمساً ولا قمراً، ولا أنزل لهم غيثاً ولا مطراً، وما أجْرى لهم بحْراً ولا نهراً؟!!
أليس من السفاهة الغليظة أن يقول قوم نوح لنوح عليه السلام : {أَنُومِنُ لَكَ واتَّبَعَكَ الارْذَلُون؟؟} كأن النطفة التي خُلق منها المستضعَفون ليست النطفة التي خُلق منها المستكبرون؟؟! أو كأن الأرحام التي تخلَّق فيها المستضعفون ليست الأرحام التي تخلَّق فيها المستكبرون؟؟ أو كأن الأرض التي وُلِد فيها المستضعفون ليست الأرض التي يعيش عليها المستكبرون، وفيها سيدفنون ومنها سيحشرون؟؟
ما هذا الإقصاء الكُفريُّ الذي عرفه الإنسان ا لجاهل وتخلَّق ببشاعته منذ عهد نوح \ إلى العَهْد الذي بَرَزَ فيه من حَفَدَتِه من قال للناس {ما أُرِيكُم إلاّ ما أرَى وما أهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَاد} قاصداً بذلك ضَرْبَ حريّة الاختيار في الصميم، وكَسْحَ طاقة التفكير والتعبير التي منحها الله عز وجل للإنسان من أجل التحْسِين والتغيير؟! إلى العصر الذي سمِع فيه الإنسان من يقول -بكل جراءة على الله والعقل والتاريخ والسُّنَن الربانية- من ليس معنا في استعباد الإنسان للإنسان فهو ضدنا، {غُفرَانَك رَبَّنَا وإلَيْك المَصِير}.
وإذا كان قوم نوح في فجر التاريخ الإنساني انتحلوا صفاتِ الألوهية، واحتَكَروا معرفة الدين الحق، ونصَّبوا من أنفسهم وُكَلاء عن الله عز وجل في معرفة من يستحق أن يكون داعيا لله عز وجل، ومن يستحق أن يكون مستجيبا لله عز وجل ورسله، فإن الإنسانية الشقية توارثت هذه الأخلاق إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم حيث وُجِدَ من يقول : {أَانْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا؟؟} ومن يقول : {لَوْلاَ نُزِّلَ هَذاَ القُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ من القَرْيَتَيْنِ عَظِيم} ومن يقول : {لَوْ كَانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْه} أليس هؤلاء الذين انبرَوْا في عهد محمد صلى الله عليه وسلم ينصِّبون من أنفسهم موازين للحق وأهله هُمْ الورثة بامتياز للذي سبقهم قائلا {أنَا رَبُّكُم الاعْلَى} بل قال متعجبا {ما علِمتُ لَكُمْ مِن الهٍ غَيْرِى} فقاده هذا التعَجُّبُ المغْرُور إلى أن يقول للسحرة المومنين {آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكُمْ إنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذِي َعَلَّمَكُم السَّحْرَ}(طه : 71) بدون أن يستحيي من جهله الفاضحبعجز نفسه عن العلم بقوته، وعن الإحاطة بمستقبل محكوميه، ومصائرهم، وتقلبات أفئدتهم؟!
فهل هناك أسْقَمُ من مرض التكَبُّر على الله تعالى وقيادة سفينة المتكبرين إلى خزي الدنيا والآخرة {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى للمُتَكَبِّرِين}(الزمر : 75) لذلك كان القرآن شفاءً لما في الصدور من أمراض الكبر والتكبر، وأمراض الفحش والتفحش، وأمراض العِوَج والاعوجاج، وأمراض المسخ والتمسُّخ، وأمراض المَلَق والتملُّق، وأمراض الحُكم والتحكم.
وبذلك كان هُدًى ودلالةً على الطريق الأقوم، ورحمةً من الشقاء الأعظم، شقاءِ التيه الفكري، وشقاءِ الضلال العقدي، وشقاءِ الفساد المهلك للحرث والنسل {واللّه لا يُحِبُّ الفساد}(البقرة : 203).
وهل هناك أفضل من نعمة القرآن؟! وفضل القرآن؟؟ وهداية القرآن؟؟ ورسالة القرآن؟؟ إنه أفضل نعمة، وإنه أشرف الشرف، بل إنه والله لرأس الشرف، وإننا والله لأمة الشرف. منرضي فله الرضا، ومن سخط فله السّخط، وذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
ألا ما كان أفقه عُمرَ رضي الله عنه يوم جاءه خراج العراق فصار يعدُّه، وهو يقول : الحمد لله، الحمد لله، فقال مولاه : ((هذَا واللَّهِ مِنْ فَضْل اللّه ورحْمَتِه)) فقال له عمر مصحِّحاً ((كَذَبْت ليْسَ هَذا هو الذِي يَقُولُ اللّه تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وبِرَحْمَتِه فَبِذَلِكَ فلْيَفْرَحُوا}(الآية) ولَكِنّ هَذَا مِمّا يجْمعُون)) تفسير ابن كثير ج 512/2) لأن الخراج الذي جاء، جاء من الأرض التي كانت -عما قريب- تحكمها أقوى قوة جبارة، ولكن الله عز وجل بالقرآن سخرها لأهل القرآن وحملة القرآن، ودَمْدَم على أهل الطغيان. فتكون أكبر نعمة هي القرآن التي بفضلها تُسخَّر الأكوان، لحمَلة رسالة القرآن.
فقهٌ وأىُّ فقهٍ لا يعلمه إلا أهل الإسلام والإيمان الذين يعكفون على دراسة القرآن، لينقذوابه الإنسان الحيران، من ضلالة الجهل والطغيان.
وما شقيت الأمة إلا عندما هجرت كتاب ربها، فصارت تدرس الدنيا للدنيا، وعلم الإنسان للإنسان، وعلم التغذية للتغذية، وعلم الحيوان للحيوان، وعلم النبات للنبات، وعلم الطب للطب، مع أن الله تعالى علّمها في كتابه عَدَم الفصل بين الدنيا والدين، وعَدَمَ الفصل بين علم الدنيا وبين علم الآخرة، فقال لها {وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدّارَ الآخِرَةِ ولا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِن الدُّنْيا وأحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ، ولاَ تَبْغِ الفَسَادَ في الارْضِ إنّ الله لا يُحِبُّ المُفْسِدين}(القصص : 77).
لأن عدم الفصل بين الدنيا والدين:
1- يجعل الأمة تتوجه إلى دار الإقامة الخالدة، وبذلك تصبح الدنيا وسيلة وليست غاية.
2- عندما تصبح الآخرة هي الغاية ينعدم التهارش على الدنيا ويشتد التنافس على الأخرى، وذلك محمود، لأنه تنافس لا يريق دما،ولا يثير حقدا، وأكثر من ذلك التنافس على الآخرة يعلي من كرامة الإنسان.
3- التنافس على الآخرة يتم أمام عين الله تعالى وبصره الذي وحده يعلم الأصلح والأتقى وبذلك يُسحبُ القرار من يد الشخص الأقوى أو الحزب الأقوى فيُضمَن الأجْرُ حسب ما يستكِنُّ في القلوب من الصِّدق والإخلاص، لا حسب ما يتراءى من الشعارات والتزلفات، وتلك أكبر ضمانات الاستقرار النفسي والاجتماعي والسياسي.
فهل تكون الالتفاتةُ للتعليم الأصيل بداية الرجوع للتوجه الأصلي للتعليم الذي هو روح الأمة، ولُبُّ صلاحها؟؟
ذلك ما نرجوه فنفرح بفضل الله ورحمته أكثر مما يفرح به الناس من حطام الدنيا الذي يجمعونه ليحاسَبُوا عليه الحساب العسير، بينما الله عز وجل جعل الدنيا كلها دار ابتلاء للفوز برضوانه يوم تبلى السرائر.
فبهذا التوجُّّه الراشد لميدان التعليم، ميدان النهوض والتقدم، نأمل أن يُنعِمَ الله عز وجل علينا بسناء الرفعة، ودوام العزة، {يَرْفَعُ اللَّهُ الذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ}(المجادلة : 11).