القصد من هذا الموضوع استنهاض الهمم وتقوية العزائم لنتخذ من رمضان معسكرا إيمانيا لإتقان التعبئة والمراجعة والمحاسبة، رجاء استشعار رقابة الله عز وجل في كل الأوقات والأحوال، ومن ثم الارتقاء في عبادتنا إلى ذرى التقوى والإحسان.
يتسلسل هذا الموضوع في نقط ثلاث :
أولها : دلالة الموسمية في رمضان.
ثانيها : مفهوم التعبئة ووسائلها.
ثالثها : مفهوم المراجعة ومتعلقاتها.
أولا : بيان دلالة الموسمية في رمضان :
شهر رمضان موسم يجيء كل عام، والموسمية سجية وسنة كونية وضعها الله في الكون، فجعل للأماكن خصوصيات ما ليس لأماكن أخرى؛ كمكة والأقصى وغيرهما من الأماكن المقدسة، وجعل للزمان خصوصيات، فاختار –مثلا- من الشهور رمضان، وخصه بمميزات، نتمثلها في مثل قوله تعالى عن هذا الشهر العظيم: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس}(البقرة:184)، وقال عن أيامه: {أياما معدودات}(البقرة :183). فدل ذلك على ثلاثة أمور:
أولها :الإشارة إلى فضل شهر رمضان وإنزال القرآن فيه: {أنزل فيه القرآن} والقرآن هو أساس التعبئة والتقوية للنهوض الحضاري، والإقبال على مدارسته في شهر رمضان من أهم وسائل ازدياد الإيمان، الذي به يتجدد الفهم والمنهج والسلوك.
ثانيها: نستوحيه من لفظ (أيام) وفيه لفت انتباه الإنسان إلى أهمية الوقت مع حركة الكون، ودورة الفلك، واختلاف الليل والنهار… ولعل الفرائض الإسلامية، والآداب الإسلامية تثبت هذا المعنى الكبير: قيمة الوقت والاهتمام لكل مرحلة منه، وكل جزء فيه، وأيام رمضان لا يحسب وقتها بالأيام والساعات بل بالدقائق والثواني؛ ذلك بأن أولها رحمة ووسطها مغفرة وآخرها عتق من النار، ولهذا الشهر العظيم ميزات أخرى بينتها الأحاديث الصحاح والحسنة.
ثالثها: التنبيه إلى سر هذا التكليف، فليس هو فريضة العمر _كالصلاة مثلا ـ يدل على ذلك ورود (أياما) بصيغة التنكير، وهو يفيد التقليل، وكل قليل يسير، ووصف (معدودات) يفيد أنها تعد على رؤوس الأصابع، وتمر مر السحاب، وما مضى منها لا يعود ولا يعوض إلا في حالة الرخص، وهذا المعنى يتظاهر مع المعنى الثاني على حقيقة أن شهر رمضان أيام معدودات من عمر الإنسان ووقته، سريعة الانقضاء، يسيرة الأداء، فعلى الإنسان أن يستثمر هذا الوقت النفيس في إحسان التعبئة والمراجعة.
ثانيا : معنى التعبئة ووسائلها :
رمضان موسم تعبئة بامتياز، والتعبئة تهيئة، من قولهم: «عبأت الجيش وعبأته- بتشديد الباء وتخفيفها- : هيأته»(1) ونحن إذا نظرنا إلى آيات الصيام في سورة البقرة، من قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} إلى قوله : {وتلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون}(البقرة: 182 – 186)؛ نجد أن هذه الآيات تركز على عبادات جليلة؛ حيث ذكر الصيام خمس مرات : {كتب عليكم الصيام}{وأن تصوموا خير لكم}{ثم أتموا الصيام إلى الليل}{فمن شهد منكم الشهر فليصمه}{أحل لكم ليلة الصيام} ثم ذكر الدعاء في قوله تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان}، وفي ختام الآيات ورد ذكر الاعتكاف ضمن قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}.
فهذه كلها عبادات سامية، ساقها منزل القرآن، الله جل جلاله، في ترتيب مقصود، ليدل على أهميتها في ميزانه، وقيمتها في إعداد الإنسان، المهيأ للعبادة خِلْقة، وتعبئته لاستشعار عظمة الله، وتقوية الصلة به، ومراقبته، وتقديم الشكر إزاء نعمه، وأهمها نعمة القرآن الذي أنزل في شهر رمضان.
ولنبدأ بعبادة الصيام، محور هذه الآيات، ولنلاحظ أن هذه الفريضة نابعة من أصل الإيمان، أساس الخير ومنبع الفضائل، وذلك سر افتتاح هذا التكليف بالنداء بوصف الإيمان: {يا أيها الذين آمنوا}، ولنلاحظ كذلك أن القرآن اتجه أساسا إلى تقرير حقيقته السامية وحكمته العالية ضمن خلاصات في ختام الآيات، صدرت بحرف» لعل» دلالة على الجزم والقطع واليقين(2)؛ حيث ذكر سبحانه في ختام الآية الأولى والأخيرة: {لعلكم تتقون}{لعلهم يتقون}. وأورد في ختام اكتمال عدد أيام رمضان وصيامها بصلاة عيد الفطر: {ولعلكم تشكرون}، وجاء في ذيل الحديث عن الدعاء ومطالبة العبد بالاستجابة: {لعلهم يرشدون}، ولا شك أن التقوى هي روح الإيمان وسر الفلاح، بغيرها لا تستيقظ روح من الغفلة، ولا تترقى نفس إلى الملأ الأعلى، ولا تتطهر حواس من شهوات الهوى، وشكر الله صورة من صور ذكره والإقبال عليه ومناجاته سبحانه، والصائم لا بد أن يكون ذاكرا شاكرا لله على إنعامه، حيث أعانه على صيام الشهر وقيامه، وكتب له الأجر والثواب، والرشد تعقل ورزانة واتزان وقوة الشخصية وجديتها وعلو همتها، والصائم الداعي المقبل على الله، لابد أن يكون راشدا متزنا جادا، ومن هنا، فإن الصوم الذي يُعِد الصائم لتقوى الله، ليس هو مجرد الإمساك عن المفطرات فحسب، بل هو إيقاظٌ للروح، وتهذيب للنفس، وتذكير بالمنعم، وتقوية للإرادة وتقويم للسلوك… وهذا يعني أن من عبأ نفسه بالصيام، فسمت نفسه، وتطهرت حواسه، ورق قلبه خوفا من الله وطمعا في رضاه، أصبح أكثر قدرة على الالتزام بالصوم الأبدي عن أكل أموال الناس بالباطل، كنوع آخر من أنواع الأكل، دل على ذلك الآية التي جاءت بعد آيات أحكام الصيام: {ولا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتاكلوا فريقا من أموال الناس بالاثم وأنتم تعلمون}(البقرة:187). بمعنى أن من تمرن على كسر الشهوات بالصيام، فضيق مجاري الشيطان إلى النفس، أتقن هذا النوع الفريد من أنواع الصيام، والأمة مدعوة للتمرُّن والتعبئة بالصوم عن كل ما يمكن أن يكون مدخلا من مداخل الضعف أو الفساد، ويوم أصبحت الأمة أفرادا ومؤسسات تأكل أموالها بالباطل، وتدلي بها إلى الحكام على شكل رشوة أو هدية أو غير ذلك، استعلى عليها الآخر، ولم تعد تنتفع بموسم رمضان، ولا بوسائل التعبئة فيه من صوم وصلاة وقيام ودعاء واعتكاف، ولا هي تستطيع مواجهة من يريد أن يعتدي عليها، ويوقف حركة سيرها.
ويوم أن تعبأت الأمة بالصيام، وتدربت في معسكره الإيماني إيمانا وعملا وعبادة وخلقا، جنت ثمار التعبئة نصرا ساحقا في بدر ومكة وعمورية وغيرها، ولهذا الأمر فرض الصيام على المؤمنين قبيل فرض الجهاد، وجاءت آيات القتال وصد العدوان في لحاق آيات أحكامه(3)؛ وذلك للدلالة على أن الأمة -أفرادا وجماعات- تكون بعد الانتفاع من تعبئة الأيام الرمضانية الجهادية المباركة؛ أقدر على مواجهة خصومها المعتدين عليها وعلى حريتها بدينها ودعوتها…
هذا وفي ثنايا الحديث عن الصيام، جاء ذكر الدعاء، الوظيفة الفطرية الأساس للإنسان. لذا نجد أن الأمر به ورد متناسقا مع أساليب الترغيب في الصوم وتقرير يسره، ورحمة الله في فرضه ورخصه، وذلك لأن الصائم أقرب الدعاة استجابة، كما جاء في حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله [: «ثلاثة لا ترد دعوتهم…، وذكر منهم الصائم حتى يفطر»(4).
فهذا الدعاء إذن يهيئ الإنسان للشعور بضآلته وفقره وحاجته إلى ربه في جلب كل نفع وكشف كل ضر، وذلك غاية من غايات الصيام، وتتوج آيات الأحكام بعبادة «الاعتكاف»، المستحبة في الأيام الأخيرة من رمضان، وكانت سنة رسول الله [ في العشر الأواخر منه، وهي -بما تعني من لزوم المسجد لطاعة الله والانقطاع لعبادته والتفرغ من شواغل الحياة- فترة تجرد لله تعالى، تتزود فيها النفس بالنفحات الربانية وتتخلص الحواس من آصار الشهوات، ومن ثم منعت فيها المباشرة، تحقيقا لهذا التجرد الكامل، الذي تتخلص فيه النفس من قبضة الطين، وتحلق الروح شوقا إلى لقاء رب العالمين، والذي يزيد هذا المعنى السامي وضوحا ورود لفظ المساجد، بدلا من البيوت، والمساجد مواضع السجود، والسجود من أعظم أفعال الصلاة، لأنه إقرار من النفس بأعمق الذل والخضوع، وهما سر العبودية وأقرب طريق للتحليق إلى مقام القرب من الله تعالى.
وهكذا يتبين أن آيات الصيام تضمنت وسائل التعبئة الروحية والجسدية، التي تضمن لمن انتفع بها حق الانتفاع أن يحقق غاية الصيام، ولاسيما إذا تمت عبر هذه التعبئة مراجعة قويمة، تدفع في اتجاه العودة إلى كل معروف، والرجوع عن كل منكر. فما المراد بالمراجعة؟ وما متعلقاتها؟
ثالثا : معنى المراجعة ومتعلقاتها :
المراجعة من «الرجع» أو «الرجوع»، ومدار مادته في اللغة على «العود» و»الرد»، ويأتي بدلالة خاصة في الاستعمال القرآني في معنى العودة إلى الله في الآخرة وما تقتضيه من المحاسبة، وينسجم ذلك مع مجيئه في آخر الآيات، في مثل قوله تعالى: {وإلى الله ترجع الأمور}(آل عمران:109). وفيه إيحاء مؤثر يستجيش القلوب ويوقظ الضمائر للمراجعة والمحاسبة، قبل أن تساق الأجساد إلى المحشر أمام الجمع الأكبر، لتحاكم في المحكمة الإلهية… والمراجعة شيء مطلوب على الدوام من طرف المسلم. يقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}(الحشر:18).
وفي ظلال رمضان تفتح أبواب التوبة والمراجعة أمام الصائمين، وإن كانت مشرعة في كل وقت، ففيه تصفد الشياطين، ويضاعف أجر الطاعات، ويكثر دعاء الملائكة للقائمين العابدين، بل تتنزل الملائكة والروح بإذن ربهم على أهل المساجد في ليلة مباركة هي خير من ألف شهر، وتبقى معهم حتى مطلع الفجر…
وإذا كانت هذه الأمور التشجيعية دافعة لحسن المراجعة في هذا الموسم الخاص الذي أنزل فيه القرآن، فبماذا تتعلق هذه المراجعة؟ وما هي إيحاءاتها؟ ولاسيما بالنسبة إلى المسلمين في عصرهم هذا؟
إن هذه المراجعة تشمل جميع أمور الإنسان الدينية والدنيوية، الفردية والجماعية، وأول ذلك:
< مراجعة الصلة بالله عز وجل:
إن أول ما يجب مراجعته في رمضان هو صلة المسلم بالله ، ومدار هذه الصلة على الإخلاص؛ لقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء}(البينة:5)، فالإنسان مدعو إلى الرجوع إلى الإخلاص في كل وقت، ولا سيما في شهر رمضان، فقد نغفل في السنة وخلال الأشهر الإحدى عشر عن الإخلاص قليلا فيأتي رمضان ليقول لنا: ارجعوا إلى الإخلاص وجددوا النوايا ومحصوها، ولنتمعن في الحديث القدسي الذي أضيف فيه الصوم إلى رب العزة إضافة تشريف وتعظيم: «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»(5) فلماذا جعل الله عز وجل الصوم له مع أن كل العبادات لَهُ تعالى؟ لأن الصوم سر بين الإنسان وبين ربه .
< مراجعة الصلة برسول الله [ :
والرسول [ هو القدوة الهادي لهذه الأمة، لذا فعلى المسلم أن يراجع صلته به، وذلك بالإكثار من الصلاة عليه وعلى آله، ودراسة سيرته، وحفظ سراياه ومغازيه، واتباع أقواله وأفعاله، في كل أمر دَقَّ أو جَلَّ، و خاصة في رمضان، حيث ثبت في الأثر عن ابن عباس: «أن رسول الله [ كان من أجود الناس، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل كل ليلة يدارسه القرآن، فكان رسول الله حين يلقاه أجود من الريح المرسلة»(6) في سيرها وبركتها، ومعنى ذلك أنه [ كان يتدارس القرآن والمدارسة تعني المراجعة؛ فيزداد إيمانه، بما يكشف له من أسرار القرآن العظيم، و يزكو مع هذه الزيادة إقباله على الله وإحسانه إلى الخلق، فكان يحيي الليل ويوقظ أهله ويشد المئزر(7).
< مراجعة الصلة بكتاب الله :
إن نزول القرآن الكريم في شهر رمضان يعني أن هذا القرآن، الذي يتضمن الصحيح من إرْث الأنبياء، هو مراجعة لتاريخ الرسالات جميعها، وهو المرجعية للأمة الإسلامية، ومن ثم فإننا نشعر وكأن الله عز وجل يعيد ويكرر علينا: مرجعك أيتها الأمة هو كتاب ربكم ليس لكم سواه، فارجعوا إلى القرآن، وراجعوا واقعكم وتاريخ أمتكم على ضوء مبادئه وأسسه ومُثُله، ففيه دواؤكم و فيه شفاؤكم وفيه نصركم وفيه عزكم وفيه كل ما تحتاجوه في الدنيا والآخرة.
ولأجل تفعيل هذا الرجوع والمراجعة بإتقان، ينبغي للمؤمن الصائم أن يقبل على قراءة القرآن، و كأنه يتنزل عليه، وأن يتدبره ويطبقه وكأن الرسول و صحابته جالسين معه، وإن هذه المراجعة للقرآن تلاوة وتدبرا وفهما وعملا، هي التي ستحقق نوعا من التصالح مع القرآن بعد هجران، وتوطد ما انقطع من صلة هذه الأمة بكتابها العظيم، وتلزمها باتباع هداياته في حياتها، وتردها من شرودها وتدفعها إلى جهة التغيير الإيجابي لواقعها.
< مراجعة أفعال الجوارح :
تصديقا لقول رسول الله [:«من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(8).
رمضان موسم مراجعة بامتياز لما فسد من أفعال جوارحنا، فكم من صائم اعتاد على إطلاق لسانه ذات اليمين وذات الشمال في كل محرم من آفات الكلام؛ كالغيبة والنميمة والكذب والشتم والسباب والجدال والمراء والسخرية والاستهزاء… فجاء التوجيه النبوي: «ليس الصيام من الأكل والشرب وإنما الصيام من اللغو والرفث»(9) لينبه هذا الغافل الشارد إلى سبيل التوبة والمغفرة بإمساك لسانه عن كل محرم، وشغله بالذكر والاستغفار والقول الحسن…
وكم من صائم استلذ النظر إلى كل محرم في المسلسلات والفضائيات والسهرات أو في الأسواق والطرقات، فجاء شهر رمضان ليدعوه إلى محاسبة هذه الحاسة، ومراجعة ما يصدر منها في ضوء تعاليم القرآن والسنة، وذلك بتوجيهه إلى غض البصر عن كل محرم، والنظر في كتاب الله تلاوة وتدبرا، وفي آلائه ونعمه تذكرا وتفكرا، وفي مصيره إلى ربه إشفاقا وتشوقا…
وكم من صائم بدأ رحلة النوم بقدوم شهر الصوم، فحرم قلبه وجوارحه وكيانه من أسرار الصيام الروحية؛ وكم من صائم ألقى سمعه إلى آلات اللهو والطرب، وإلى ما حرم الله من غيبة ونميمة وكذب، فإن السامع كالمتحدث كلاهما شريكان، وكل منهما شيطان؛ فكان رمضان فرصة سانحة ليراجع نفسه ويحرر رقبته من أسر هذه العادة السيئة، وذلك بالاستماع إلى كلامه سبحانه، استماع تأثر وتدبر وخشوع.
فينبغي إذن، أن تراجع أفعالنا في ضوء ما يأمر به الله سبحانه في الفطر وفي الصوم من باب أولى وأحرى.
< مراجعة المعاملة مع الآخرين :
هذه المراجعة ضرورية في هذا الزمان، زمن الماديات، الذي نضبت فيه رشح الرحمة من قلوب الناس، وهي ضرورية أكثر في هذا الشهر الكريم؛ فكم من الأرحام تقطعت بين الأزواج بسبب الجهل بتعاليم الإسلام ومبادئ المعاملة بين الزوجين، وكم من الأبناء عقوا آباءهم، ومن الآباء أهملوا أبناءهم، وكم من الأمهات دأبن على الصراخ في وجه أبنائهن الصغار، وغفلت أعينهن عنهم في نوم أو سهر متواصل، أو انشغال فارغ، وكم من أواصر القرابات اهتزت، بسبب متاع زائل، أو نزاع عارض، أو ظرف طارئ، وكم من المحرومين والمنكوبين والملهوفين منعوا المواساة والصدقات، وكم من الخصومات المذهبية والفكرية، والنزاعات حول المكاسب الدنيوية فرقت بين المؤمنين، بعد أن كانوا إخوة، على سرر متقابلين؛ فجاءت هذه الفرصة، فرصة رمضان، لمراجعة صلاتنا بأسرنا، وأقربائنا وضعفائنا وإخوتنا؛ جاءت لنسلك مسلك الرجوع إلى الله، والتقرب إليه بحسن الصيام والقيام، وصلة الأرحام الخاصة والعامة، وكل ما يحقق هدايات القرآن والسنة، في مثل قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}(البقرة:228)، وقوله [ : «خيركم خيركم لأهله»(10)، «والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها»(11) وقوله سبحانه جامعا بين المراجعة والصدقة: {ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم}(التوبة:104)، وقوله سبحانه آمرا بالإصلاح بين إخوة الإيمان: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم}(الحجرات:10).
رابعا: مراجعة القيم والعادات السيئة :
ولعل من أهم القيم والعادات التي ارتبطت بشهر رمضان أشد ارتباط وأثرت في قيمنا وعاداتنا وعباداتنا قيم الإنفاق والاستهلاك، وعادات الأكل والشرب والنوم والاستيقاظ. فالإنفاق البذخي في رمضان لا يتسق قطعا مع روح الصيام، ومع وضعية مجتمعاتنا الإسلامية التي في أغلبها مجتمعات نامية تتطلب المحافظة على كل جهد، وكل إمكانية من الهدر، وما نصنعه في رمضان هو بكل تأكيد هدر لإمكانات مادية، وهدر لقيم سامية، وهدر لسلوك منزلة القناعة.
شهر رمضان مناسبة لمراجعة قيمنا الاستهلاكية وتعديلها لتصبح قيما إنتاجية أو استهلاكية رشيدة، تعتمد على مواردنا وجهودنا الذاتية، بدلا من الاعتماد على الآخرين، لذا أهيب بالمرأة بوجه خاص، باعتبارها تدبر مصروفات بيتها، أن تجعل كل مطالبها ونفقاتها في رمضان في حدود الكفاية، ولا تجعل أكبر همها الإنفاق في الأسواق على المأكل والملبس والأثاث، فإن العبرة بالاعتدال في الإنفاق، بصريح الآية الكريمة: {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}(الفرقان:67)…
وفي الختام، فإن مما يلزم لتحقيق هذه التعبئة والمراجعة في رمضان؛
> أن نجدد نياتنا على صيام رمضان إيمانا واحتسابا، وذلك بعقد العزم على إحكام الصلة بكتاب ربنا، ونفخ روحه فينا من جديد، وتلقي معانيه كما أنزلت أول مرة، لم يطرأ عليها تغيير، وأن نعود عودة صادقة إلى امتثال أوامر ربنا ونواهيه، وأن نحاسب أنفسنا أثناء الصوم وبعد الصوم على ارتكاب ما يفسد صومنا أو ينقص تقوانا.
> أن نصل أرحامنا وإخوتنا في الإيمان.
> أن نرتق ما انفتق من سلوكنا ونقلع عن فاسد عاداتنا.
> أن نراجع واقع أمتنا في ضوء القرآن.
> أن نعي تمام الوعي أن عباداتنا وعاداتنا التي سنكتسبها بالتعبئة والمراجعة ليست موسمية في رمضان، وإنما الموسمية فيه فرصة حقيقية للتعبئة والتقويم نحو الأفضل، وذلك لأن المفهوم الحقيقي للعبادة يتسم بطابع الاستمرارية وعدم الانقطاع، مصداقا لقوله تعالى: {واعبد ربك حتى ياتيك اليقين}(الحجر:99).
وذلكم هو السبيل إلى صوم أهدى وأنفع.
د. جميلة زيان
————
1 – المفردات/عبأ، ص330.
2 - يعضد هذا المعنى تكرارها 4 مرات في سياق آيات الصيام من سورة البقرة
3 - من قوله تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}(البقرة: 189). ويرفد ما جاء في القرآن الحديث المروي عن رسول الله [: «الصيام جنة من النار، كجنة أحدكم من القتال»: (صحيح سنن ابن ماجه، الألباني، عن عثمان رضي الله عنه، رقم: 1336، 2/57)
4 - صحيح سنن ابن ماجه، الألباني، رقم: 1432، 2/86.
5 - البخاري(1805) ومسلم(1151)
6 - مسند أحمد بن حنبل: 5/180، عن عبد الله بن عباس.
7 - كما ورد في الصحيح، واللفظ لمسلم رقم(1174) : « كان رسول الله إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر»
8 - البخاري(1804) عن أبي هريرة ].
9 - صحيح الجامع، الألباني، عن أبي هريرة رضي الله عنه(5376)
10 - سنن الترمذي، عن عائشة رضي الله عنها برقم(3895)
11 - البخاري(893) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.