4) البيعة الثانية بالعَقَبَة
قال ابن إسحاق: ثم إن مُصْعَب بن عُمَير رجع إلى مكة؛ وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حُجَّاج قومهم من أهل الشِّرْك حتى قدموا مكة، فواعدوا رسول الله العَقَبَة من أوسط أيام التشريق؛ حين أراد الله بهم ما أراد: من كرامته، والنصر لنبيه، وإعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله.
البراء بن مَعْرُور يصلي إلى الكعبة وحده :
قال ابن إسحاق بسنده: عن كعب، وكان كَعْب ممن شهد العَقَبَة وبايع رسول الله بها، قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين، وقد صلينا وفَقُهنا، ومعنا البَرَاء بن مَعْرُور سَيِّدُنا وكبيرنا، فلما وَجَّهّنا لسفرنا وخرجنا من المدينة قال البَرَاء لنا: ياهؤلاء إني قد رأيت رأياً ووالله ما أدري أتوافقونني عليه أم لا؟ قلنا: وما ذاك؟ قال: قد رأيتُ ألاَّ أدع هذه البَنِيّة منِّي بِظَهْرٍ (يعني الكعبة) وأن أُصَلِّي إليها ، فقلنا: والله ما بلغنا أن نبينا يصلي إلا إلى الشام(1)، وما نريد أن نخالفه، فقال: إني لَمُصَلٍّ إليها ، فقلنا له: لكنَّا لا نفعل، فكنا إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام وصلى إلى الكعبة، حتى قدمنا مكة، وقد كنا عِبْنا عليه ما صنع، وأبى إلا الإقامة على ذلك.
فلما قدمنا إلى مكة قال لي: ياابن أخي، انطلق بنا إلى رسول الله حتى أسأله عما صنعت في سفري هذا، فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه، قال: فخرجنا نسأل عن رسول الله ، وكنا لا نعرفه ولم نره قبل ذلك، فلقينا رجلاً من أهل مكة، فسألناه عن رسول الله ، فقال: هل تعرفانه؟ فقلنا: لا، قال: فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه؟ قال: قلنا: نعم، قال : فإذا دخلتما المسجد فهو الرجل الجالس مع العباس، قال: فدخلنا المسجد، فإذا العباس ] جالس ورسول الله جالس معه، فسلمنا، ثم جلسنا إليه ، فقال رسول الله للعباس: >هل تعرف هذين الرجلين ياأبا الفضل؟< قال: نعم، هذا البَرَاء بن مَعْرُور سيد قومه، وهذا كَعْب بن مالك، قال: فوالله ما أنسى قول رسول الله >الشاعر؟< قال: نعم.
فقال البَرَاء بن معرور(2) : يانَبِيّ الله، إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله للإسلام فرأيت ألا أجعل هذه البنية مني بظهر فصليت إليها، وقد خالفني أصحابي في ذلك، حتى وقع في نفسي من ذلك شيء، فماذا ترى يارسول الله؟ قال: >قد كُنْتَ على قِبْلَةٍ لو صبرت عليها<(3) فرجع البَرَاء إلى قبلة رسول الله وصلى معنا إلى الشام.
موعد اللقاء بين الرسول والأنصار:
قال ابن إسحاق: بسنده إلى كعب قال : ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله العَقَبَة من أوسط أيام التشريق، قال: فلما فَرَغنا من الحج، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله لها ومعنا عبد الله بن عَمْرو بن حَرَام أبو جابر -سَيِّدٌ من ساداتنا وشريف من أشرافنا أخذناه معنا -وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا-، فكلمناه، وقلنا له: ياأبا جابر، إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطباً للنار غداً، ثم دَعَوناه إلى الإسلام، وأخبرناه بميعاد رسول الله إيانا العَقَبَة، قال: فأسلم وشهد معنا العَقَبَة، وكان نَقِيباًً، قال: فَنِمْنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا.
حتى إذا مضَى ثلثُ الليل خرجنا من رحالنا لميعادِ رسول الله ، نَتَسَلَْلُ تَسَلُّل القَطا مُسْتَخْفِين حتى اجتمعنا في الشِّعْب عند العَقَبَة، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا: نَسِيبةُ(4) بنت كعب، أمُّ عُمارة، إحدى نساء بني مازن بن النَّجار، وأسماء بنت عَمْرو بن عَدِيّ بن نابي، إحدى نساء بني سَلِمة، وهي أم منيع.
لقاء رسول الله أهل العَقَبَة:
قال: فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول الله ، حتى جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويَتَوثَّق له، فلما جلس كان أولَ متكلم العباس بن عبد المطلب، فقال: يامعشر الخَزْرج، قال : -وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من الأنصار الخَزْرج خزرجها وأوْسَها-، إن محمداً منا حيثُ قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عِزٍّ من قومه ومَنَعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللُّحُوق بكم، فإن كنتم تَرَوْن أنكم وافُون له بما دَعَوْتموه إليه ومانِعُوه ممن خالفه فأنتم وما تحمَّلتم من ذلك، وإن كنتم تَرَوْنَ أنكم مُسْلِمُوهُ وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فَمِنَ الآن فَدَعُوه فإنه في عِزٍّ وَمَنعة من قومه وبلده.
فقلنا له: قد سمعنا ما قلت، فتكلَّمْ يارسول الله، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
محادثات لتوثيق أمر النصرة والحماية
فتكلم رسول الله : فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورَغَّب في الإسلام، ثم قال :
>أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم< قال: فأخذ البَرَاء بن مَعْرُور بيده، ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق لَنَمْنَعَنَّكَ مما نمنع منه أُزُرَنا(5) فبايعْنَا يارسول الله، فنحن والله أهل الحروب، وأهل الحَلْقَة(6) ورِثْناها كابراً عن كابر قال: فاعترض القولَ -والبراء يكلم رسول الله – أبو الهَيْثَم بن التَّيْهَان، فقال: يارسول الله، إنَّ بيننا وبين الرجال حبالاً(7)، وإنا قاطعوها -يعني اليهود- فهل عسيتَ إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن تَرجِعَ إلى قومك وتَدَعَنا؟ قال: فتبسَّمَ رسول الله ثم قال: >بَلِ الدَّمُ الدَّمُ، والهَدْمُ الهَدْمُ(8)، أنَا مِنْكُم وأنْتُم مِنِّي أحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُم<.
فقال رسول الله : >أخْرِجُوا إليَّ مِنْكُمْ اثني عشر نَقِيباً ليكونوا على قَوْمِهِم بِما فِيهِمْ< فأخرجوا منهم اثني عشر نَقِيباً: تسعةً من الخَزْرج، وثلاثةً من الأوس .
————–
1- وكانت القبلة بيت المقدس.
2- البراء بن معرور : يكنى : أبا بشر، بابنه بشر، وهو الذي أكل مع رسول الله من الشاة المسمومة فمات.
3- ولم يأمره بالإعادة لأنه إنما توجه إلى الكعبة متأولا أنها الأحق بأن تكون قبلة.
4- نسيبة : هي امرأة زيد بن عاصم، وقد شهدت بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، كما شهدت يوم اليمامة، وباشرت القتال بنفسها، وشاركت ابنها عبد الله في قتل مسيلمة، فقطعت يدها، وجرحت اثني عشر جرحا، ثم عاشت بعد ذلك دهراً، ويروى أنها قالت لرسول الله ما أرى كل شيء إلا للرجال وما أرى للنساء شيئا، فنزل {إن المسلمين والمسلمات..}(سورة الأحزاب).
5- أي ما نمنع منه أعراضنا ونساءنا والأزر كناية عن المرأة والنفس.
6- أهل الحلقة: أهل السلاح وعدة الحرب.
7- أي مودة وعلاقات.
8- أي دمكم دمي وهدمكم هدمي والمقصود بل لي ما لكم وعلىّ ما عليكم وقد فسرتها عبارة الرسول التي تليها : أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم.