مـقـدمـة
إن الهدف المحوري الإستراتيجي للرسالات الدعوية عبر مسيرة دعوات الأنبياء هو”إقامة الدين الخالص لله تعالى”، ولتحقيق هذا الهدف العظيم لابد من التركيز على التربية الدعوية التي تعنى بصياغة الإنسان صياغة إسلامية شاملة،بحيث تستهدف جميع جوانب التربية فيه، فكريا وعقليا ونفسيا وسلوكيا وإداريا، فيتكون تكوينا رصينا يؤهله لحمل رسالة الدعوة حملا حقيقيا، تكون معالمها واضحة في تفكيره وتعبيره وتدبيره، فالتربية الصحيحة هي العمود الفقري للرسالة الدعوية الإسلامية، فهي صمام أمنها وأمانها وضامن نجاحها والتمكين لها،فالمقصد الكبير للرسالة القرآنية هوتزكية الأنفس وتعليم الناس الكتاب والحكمة قال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(آل عمران : 164)، فالتزكية والتعليم وظيفة دعوية جليلة ومقصد عظيم من مقاصد البعثة النبوية والرسالة القرآنية،وهي وظيفة العلماء والدعاة باعتبارهم ورثة الأنبياء قال سبحانه: { فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون }(التوبة : 122). ولتوضيح ذلك أكثر لابد من إبراز معالم الرؤية التربوية الدعوية نظريا ومنهجيا، وذلك كما يلي:
أولا : تحديد مصطلح التربية الدعوية :
التربية الدعوية هي الصياغة القويمة للمسلم، المعتمدة على الوحي والسيرة وغيرهمامن المعارف المستنبطة منهما، وما يدلان عليه من هدايات منهاجية وبصائر تربوية ودعوية ومقاصد مرعية، سواء من حيث المنهج أومن حيث الأدوات والوسائل.
وتهدف هذه الصياغة إلى إشعار المسلم بالمسؤولية اتجاه دينه وأمته،وبث روح التضحية فيه من أجل النهوض بأمانته ورسالته الدعوية، وتزويده بما يلزم لذلك من القيم الإيمانية والتربوية ومن علم وفقه بالدين والدعوة والواقع والتنزيل .
ثانيا : على المستوى المنهجي :
منهجيا لابد من الاقتناع بدور الإنسان في إقامة الدين، ومن هنا فإن الضرورة المنهجية تقتضي أولا وقبل كل شيء صناعة الإنسان الذي يحمل لواء مشروع إقامة الدين، وصناعة هذا الإنسان صناعة من نوع خاص، تتطلب أن تكون الرعاية التربوية مستمرة والإعداد لها شاملا ومتكاملا ومتوازنا، حتى يتخرج من مدرسة التربية الدعوية القرآنية إنسانا صالحا مصلحا قويا أمينا، متحققا ومتخلقا بهدايات الوحي وبصائره المنهاجية في تفكيره وتعبيره وتدبيره، فصياغة المسلم الرسالي النموذج هومقصد التربية الدعوية وهدفها،فهوالنموذج الذي صاغه الرسول وحمل رسالة الدعوة معه حملا مثاليا لا نظير له، فكان النموذج الخير المخرج إخراجا والمعد إعدادا لأداء الرسالة الدعوية التي أخرجت الأمة لأجلها، قال تعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }(آل عمران : 110).
وتخريج هذا النموذج هوالهدف الإستراتيجي الذي ينبغي للدعوات المعاصرة أن تسعى إليه وتعمل من أجله، فهو إن شاء الله تعالى النموذج الأقدر على إقامة دين الله عز وجل، وهوالأقدر أيضا على تخريج النماذج التي تحمل المواصفات التربوية والدعوية المطلوبة في المسلم المعاصر الرسالي .
و المقصود هاهنا أن مسؤولية إقامة الدين، تقتضي منهجيا إقامة قاعدة عريضة كافية من الأقوياء الأمناء، في كل مكان، وهذا التكوين بهذه الشروط والمواصفات هو شرط التمكين والاستخلاف للمسلمين، وهوشرط بلوغ الأمة مرتبة الشهادة على الناس التي هي غاية هذا الدين وكمال إقامته، فلا إقامة للدين كاملة بدون تحقيق هذه الأبعاد كلها.
ولعل الدارس لسيرة الرسول ، المتأمل في القرآن الكريم، يدرك هذا البعد المنهجي في إعداد الله عز وجل لرسوله أولا، ثم في إعداد الرسول لصحابته ثانيا، ثم في اهتداء الصحابة بالمنهج النبوي في الإعداد والتربية والدعوة ثالثا، ثم في اهتداء الأجيال المسلمة بعد جيل الصحابة بذلك المنهج القرآني النبوي في الإعداد التربوي والدعوي رابعا، ثم في بعث هذا المنهج الدعوي التربوي القرآني الفطري وإحيائه من جديد في كل مكان، لتحيى الأمة بهذا الإحياء وتنبعث ببعثه، في التربية والدعوة والبناء الحضاري والعمران البشري في هذا العصر خاصة.
ثالثا : مراحل المنهج التربوي الدعوي :
1- المنهج الرباني في تربية الرسول وإعداده لحمـل رسالة الإسلام والدعوة إليه :
إن رسالة هذه الأمة الخاتمة رسالة عظيمة وكبيرة، فكان من اللازم أن يكون أبناء هذه الأمة في نفس مستوى رسالتها،إنها رسالة الشهادة على الناس، قال تعالى:{ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس}(الحج : 78)، فالرسول أعد إعدادا خاصا وربي على عين من الله تعالى حتى يكون في مستوى النبوة والرسالة الخاتمة، وهذا الإعداد الرباني والرعاية الإلهية كانت عبر أطوار ومراحل تربوية واضحة المعالم، منها :
> أ- مرحلة الإعداد والتأهيل التربوي الشامل :
من القواعد التربوية الذهبية قاعدة : “على قدر الرسالة التي تؤدى يكون الإعداد والتأهيل”، إعداد وتأهيل من طراز خاص لحامل الرسالة، لأن الإعداد الفوري للإنسان غير ممكن، فهوليس إعدادا لجزئية بعينها وإنما هو إعداد كامل وشامل بكمال وشمول الرسالة الخاتمة الشاهدة.
إن هذا النوع من الإعداد الخاص يتجه نحوبناء النفوس، وبناء عالم الأفكار، وبناء العواطف والإحساسات وصياغة العقول والقلوب…وبهذا النوع من الإعداد، وبهذا المنهج التربوي كان الإعداد الرباني للرسول والتأهيل الإلهي له، حيث أعده الله إعدادا شاملا وكاملا :
- إعدادا إصطفائيا في بداية الأمر، وكان ذلك قبل نزول الوحي، شمل مرحلة ما قبل الولادة وذلك باصطفائه من بني هاشم أشرف قبيلة وأحسنها، وبعد الولادة بالرعاية والحفظ عبر مراحل حياته الأولى إلى أن أعد إعدادا لحمل الرسالة(1).
- ثم إعدادا آخر أثناء نزول الرسالة، ليستعد لتلقي القول الثقيل والرسالة العظيمة {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا}(المزمل : 5)، فكان أول شيء نزل عليه قوله تعالى: {إقرأ…}(القلم : 1- 5)، وهوأمر بالقراءة باسم الله، فالقراءة باسم الله قاعدة منهجية قرآنية في كيفية القراءة، قراءة كل مقروء سواء كان المقروء من الكتاب المسطور -القرآن- أم من الكتاب المنظور – قراءة الأكوان والمخلوقات- فهذه القراءة أوتلك يجب أن تكون باسم الله، إذ بهذه القراءة المنهجية تتجلى للقارئ إعجازات الله تعالى وهداياته المنهاجية وبصائره المبصرة في قرآنه، وتتجلى له عظمة الخالق في مخلوقاته وأكوانه فيرحل من المخلوق إلى الخالق ومن الأكوان إلى المكون سبحانه وتعالى، فيعرف الله عز وجل حق المعرفة من خلال الوحي ومن خلال الأكوان، وهذا مقصد عظيم من مقاصد هذه القراءة التربوية الدعوية التي تبدأ باسم الله، فهي قراءة خاصة مختلفة تماما عن كل القراءات، فكانت ثمراتها في الفكر والنفس والسلوك ثمرات خاصة، وهذه حقيقة لا يدركها إلا العارفون بالله تعالى الذين ذاقوا حلاوتها بالتجربة الصادقة الخالصة لرب المقروءات سبحانه وتعالى.
وفي هذا ما فيه من الهدايات المنهاجية التربوية والدعوية وغيرها، ومنها :
- ما ينبغي أن يستقر في نفس وعقل وفكر المعد، من معلومات أولها العلم بالله تعالى صاحب الخلق والأمر خالق الأكوان ومصدر القرآن سبحانه، وفي هذا من الإعداد الداخلي للإنسان عموما وللرسول خصوصا على المستوى العلمي والروحي الشيء الكثير،واستقرار ذلك في النفس والفكر والسلوك، ليشع نور المتلقى في قلب وقالب المتلقي،ثم لينتقل ذلك النور فيشع في الناس بعد إشعاعه في قلب الداعية وأثره في جوارحه وسلوكه، فيكون التأثير في الغير تأثيرا فطريا قويا، قال تعالى: { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات}(محمد : 20)، فقدم سبحانه أمانة العلم عامة والعلم بالله تعالى خاصة على جميع الأمانات والواجبات القولية والفعلية ، إذ به تعرف وتفهم وبه تطبق وبه يحكم عليها بالقبول أوالرد.
- ما يحدثه قوله تعالى في بداية الوحي : { إقرأ…} من أثر تربوي كبير في العقل والنفس والجوارح، مما يجعل الإنسان في اتصال مباشر بالله تعالى رب العالمين وخالق الناس أجمعين، لأن هذا الإتصال وسيلة لما يجب أن يعلم أولا، وهوالعلم بالله كما تقدم، والعلم به سبحانه بهذه الكيفية يسهل وضع الأرباب في أماكنها كيفما كانت هذه الأرباب الزائفة، أصناما أوأشخاصا أونفسا أوهوى أوشيطانا أوغير ذلك، فيصبح الإنسان المتصل بالله العارف به محررا عقلا وقلبا، فكرا وسلوكا من جميع أنواع الاستعباد والاستذلال والخضوع إلا لِلَّه وحده سبحانه وتعالى.
والاتصال المباشر بالله تعالى بهذا المعنى يعني الانقطاع التام له سبحانه بالعبادة، ويكون ذلك بالوسائل المقررة شرعا، التي ذكرت معظمها في سورتي المزمل والمدثر، من قيام ليل وقراءة قرآن ونذارة وتكبير لله تعالى وطهارة وهجر للرجس وتفكر في مخلوقاته سبحانه وذكر وتبتل وصبر وتوكل على الله عز وجل وغيرها، قال تعالى :{يا أيها المزمل، قم الليل إلا قليلا، نصفه أوانقص منه قليلا، أوزد عليه ورتل القرآن ترتيلا، إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا، إن ناشئة الليل هي أشد وطئا، وأقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا،واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا، رب المشرق والمغرب لا إله إلا هوفاتخذه وكيلا، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا}(المزمل : 1- 10)، وقال سبحانه : { يا أيها المدثر، قم فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فاصبر}(المدثر : 1- 7)،فالدارس لفواتح سورتي المزمل والمدثر المتأمل للآيات الواردة فيهما يجد أنهما يرسمان برنامجا تربويا ودعويا هومنطلق تأسيس جيل الصحابة القدوة الذين تخرجوا من مدرسة الوحي على يد الرسول .
والقصد من هذا كله عمارة القلب بالله تعالى ووصله به باستمرار، ولا يتم ذلك إلا بالدربة والمجاهدة والتربية الدائمة للنفس والفكر والسلوك.
وبهذا الإعداد المتميز يصير الإنسان المؤمن ربانيا، والرباني هوالعبد المتصل بالرب اتصالا كبيرا جدا، المتصف بصفاته من جود وكرم وعدل وإحسان وغيرها مما يجوز منها في حق الإنسان. فإذا صار المؤمن ربانيا أصبح مؤهلا لحمل رسالة التكليف وتبليغها للناس، قال تعالى {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}(آل عمران : 79)، فهذا الإعداد التربوي الدعوي يعد المرحلة الأساس التي لابد منها في أي زمان ومكان لتخريج عباد الله المتصفين بمقتضيات العبدية الحقة لله تعالى تحققا وتخلقا .
>ب- مرحلة الإعداد والتأهيل الدعوي للرسول :
من المسلمات التي لا بد من التذكير بها هاهنا، أن النجاح والتوفيق في تربية الإنسان وتزكية نفسه والسموبه إلى الدرجات العليا من منازل الإيمان والتقوى إنما هومن الله تعالى، فهوالموفق لذلك وتلك نعمة يمن بها على من يشاء من عباده، فإذا حصلت فعلى العبد شكر المنعم سبحانه، قال تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم}(النور : 21).
إن واجب الإنسان في التربية لا يقتصر على تربية نفسه، فإذا ما تم له هذا التوفيق واجتهد في تزكية قلبه وجوارحه، واستعان في ذلك كله بالله تعالى، كان لزاما عليه أن ينتقل إلى تزكية غيره لشدة حلاوة تلك التزكية. وحينئذ يصير المؤمن صالحا في نفسه مصلحا لغيره ذا قوة جاذبة يقتدى به في علمه وأخلاقه وسلوكه، فيكون التأثير حينئذ أشد، لأن لسان الحال أقوى من لسان المقال، وقد اجتمع لديه هنا قوة لسان الحال والمقال معا، فأعطياه نورا عظيما، وإشعاعا بليغا يؤثر في الناس فيستجيبوا لربهم، فيعم الفضل والخير من حوله.
—–
1- أنظر في ذلك كتب السيرة النبوية ومنها : سيرة ابن هشام، والرحيق المختوم للمباركفوري، وفقه السيرة النبوية للغضبان، وفقه السيرة النبوية : لمحمد سعيد رمضان البوطي،، ودروس من سيرة الحبيب المصطفى للمفضل فلواتي .