سنة الله تعالى في إهلاك الـمكذبين باليوم الآخر


قال الله جلت حكمته : {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الايكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد أفعينا بالخلق الأول، بل هم في لبس من خلق جديد }(12- 15 ويعود الخطاب القرآني إلى أصل السياق، من الحديث عن منكري البعث والنشور، في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده إلى يوم القيامة، ليذكرهم جميعا بأيام الله وسنته في الذين خلوا من قبل من الكفرة والمكذبين فكانت النتيجة أن الله أهلكهم وتبرهم، وقطع دابرهم في الدنيا ثم جعلهم حطبا للجحيم في الآخرة، ذلك وعيد الله ونذيره الذي لا تتخلف سنته على ما رتبه الله في كتابه ومحكم وحيه قال جل جلاله : {كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وعاد وفرعون وإخوان لوط وأصحاب الايكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد} فهذه كلمات قلائل اختصرت مصارع قرون عديدة من الأمم والشعوب.

فأما قوم نوح فقد أهلكهم الله بالطوفان المشهور. وأما أصحاب الرس فهم : بقية من ثمود ـ وقيل : من غيرهم ـ قَتَلوا نبيهم وألقوه في بئر لهم، على ما ذهب إليه جمهور المفسرين. والرَّس في العربية : الحفرةُ عموما، والبئر المبنية بالحجارة. تقول : رسَسْتُ رسا، بمعنى : حفرتُ بئرا. ورُسَّ الميتُ : قُبِر ودُفن(2). وقد اهلك الله جل وعلا أصحاب الرَّسِّ وتَبَّرهم تتبيرا، كما هو مذكور بإجمال في سورة الفرقان(3).

وثمود هم قوم نبي الله صالح الذين عقروا الناقة المعجزة، وكذبوا رسولهم وسخروا منه، فأهلكهم الله بالرجفة وبالصيحة وأما عاد فهم قوم نبي الله هود كفروا به، فأهلكهم الله بالريح الصرصر ذات الإعصار المدمر وأما فرعون هنا فهو طاغية مصر المشهور، عدو موسى عليه السلام، وقد أغرقه الله وجنوده في اليم وأما “إخوان لوط” فهم سكان مدينة سَدُومَ، وهم أصحاب الفاحشة الشاذة وقد أهلكهم الله بالخسف، والقذف بحجارة مدمرة، أرسلتها عليهم الملائكة من السماء.

وأما أصحاب الأيكة -بمعنى أصحاب الشجرة- فهم قوم نبي الله شعيب عليه السلام، كانوا بمَدْيَن، وكانت قريتهم محاطة بالأيك، أي الأشجار والبساتين، فسُمُّوا بذلك، ثم كفروا نِعَم الله عليهم، وكذبوا نبيهم، فأهلكهم الله بعذاب يوم الظُّلة والظلة : غمامة سوداء التهبت عليهم بإعصار فيه نار فأحرقتهم أجمعين وقد جمع الله عليهم من العذاب -بسبب تماديهم في الطغيان وتحديهم لرب العالمين- الرجفة، والصيحة، ونار الظلة، فأهلكهم بذلك جميعا(4).

وأما قوم تُبَّع فهم أصحاب تُبع ملك اليمن، واسمه : تُبَّن أسعدُ أبو كَرِبَ الحِمْيَريُّ مَلِكُ اليمن. وتُبَّع لقب لسلسلة من ملوك اليمن، وهم التبابعة. وهم من نسل سبأ جد القبائل اليمنية. عاش تُبَّان أسعد قبلَ الإسلام، وقد كان على دين إبراهيم حنيفا، بينما كان قومه على عبادة الأوثان، وقد ثبت في حقه حديث صحيح، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “لا تسُبُّوا تُبَّعا فإنه قد كان أسلم”(5).

ولم يزل تبع هذا يدعو قومه إلى الإسلام، حتى أسلم من أسلم منهم وكفر من كفر، لكنه لما مات ارتدوا جميعا على أدبارهم إلا قليلا منهم، فكفروا بأنعم الله مما أفاء عليهم من الجنات والبساتين والثمار، وعادوا إلى عبادة الأوثان من جديد، فأرسل الله عليهم هلاكا شاملا، بما دمر عليهم من سد مأرب (6).

فكل هذه الأمم والشعوب اشتركت في جريمة الجحود والتكذيب، فاشتركت بسبب ذلك في نتيجتها وهي التعرض لنقمة الله وعذابه من الهلاك والتدمير وإن اختلفت الصور والتجليات لكن السنة واحدة وهي قوله تعالى ههنا : {كل كذب الرسل فحق وعيد} أي وقع وعيد الله ونذيره الذي حق على هؤلاء وأولئك جميعا ووجب عليهم، فوقع بهم العذاب على وفق ما أنذرهم الله وأوعدهم، لما وقعوا في السبب المحذور.

وبعد عرض هذا الوعيد الشديد، بما ذكر -مجملا- من مصارع القوم، تنبيها على سنة الانتقام الإلهي من كل جبار عنيد، سواء كان من الملوك، أو المدائن، أو الأمم والشعوب، رجع الخطاب -في ختام هذه الفقرة- إلى محاجة الكفرة، من منكري البعث والنشور، منبها بقوة من خلال سؤال إنكاري إلى قدرة الله على الخلق الأول، وكيف أن الكفر يلبس على أهله فلا يبصرون إمكانية الخلق الجديد، والتكوين الثاني، بالقياس على الخلق الأول وهو بسيط جار على أوضح الأقيسة وأظهرها، ألا وهو قياس الأوْلى لكن هوى الجحود والإنكار يعمي البصائر عن مشاهدة الحق وتقع القلوب في لبس وحيرة واختلاط واضطراب في تصورها واستدلاله وكذلك هي نظريات الكفر والإلحاد عبر التاريخ قال عز وجل : {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد} فوجود هذا العالم المخلوق على سعته وشساعته، وعمق امتداده، بما لا طاقة لخيال الإنسان على حصره، كله دال على أن الذي لم يَعْيَ ولم يعجز عن خلق هذا العجب العجاب من الكائنات، وهذا الكم الهائل من المخلوقات، بشتى أنواعها وأحجامها ودقائقها، هو على خلقها مرة أخرى -بعد إفنائها- أقدر وأحرى ففيم الإنكار للبعث بعد الموت إذن؟ إن الكفر منطق متهافت متناقض حقا ولذلك قال سبحانه : {بل هم في لبس من خلق جديد} واللبس : الحجب والتعمية، بسبب ما يقع في القلب من الشك والحيرة والاضطراب. وأي لبس أعظم من عدم إبصار هذه الحقيقة الصارخة، التي تنطق بها المخلوقات بشتى أنواعها؟ وكيف يعمى أحد عن هذا المنطق القرآني الواضح العميق؟ قال تعالى في سورة الروم : {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه}(الروم : 27).

ألا وإنه لا يبصر طرفا من الخلق الأول، ثم يشك في قدرة الله على الخلق الثاني إلا أعمى حقا ذلك، وإنما هُدى الله هو الهدى! ثبتنا الله وإياكم على نوره وصراطه المستقيم، وزادنا من فضله هدى على هدى، وجعلنا من الشاكرين!

———

2- ن. الصحاح، ولسان العرب : مادة “رسس”

3- وهو قوله تعالى : {وعادا وثمودا وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا وكلا ضربنا له الأمثال وكلا تبرنا تتبيرا}(الفرقان : 83-93).

4- ن. تفسير ابن كثير : الآية (94) من سورة هود.

5- رواه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع، والسلسلة الصحيحة (5/548)، وقصة تبع هذا مفصلة في كتب السير، مثل سيرة ابن هشام(1/19ـ 26)، وسيرة ابن كثير(1/18- 21).

6- ذكر ابن كثير رحمه الله بعد بحث مستفيض في الروايات التاريخية ـ أن تُبَّعا هذا قد أسلم على دين موسى، وذلك قبل بعثة المسيح عليه السلام وأنه حج البيت الحرام، وكسا الكعبة. ولا خلاف، فدين موسى هو دين إبراهيم، قبل انحراف بني إسرائيل عنه. فلما عدا تُبَّع إلى اليمن أسلم قومُه على يديه، بعد تردد شديد ونكوص. لكنه لما مات عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وعبادة الأصنام والنار فأرسل الله عليهم سيْل العرم ـ وهو سد مأْرِب ـ وشرد الذين بقوا أحياء منهم، هائمين على وجوههم في الصحاري والقفار كما هو مذكور في قصة سبأ. ن. تفسير ابن كثير لقوله تعالى : {أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين}(الدخان : 37) وقوله تعالى : {فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتان ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل}(سبأ : 16). والعرم : جمع عَرِمة، وهي السدة المبنية لحصر الماء. فلما حطمها الله تدفق عليهم ماء السد العظيم فأهلكهم وشردهم.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>