القرآن الكريم مصدر الدعوة إلى الله تعالى أسلوبا ومنهجا
سورة “ق” نموذجا
من البديهي أنه مهما نظر المنظرون للدعوة إلى الله تعالى من دون استمداد من الوحي، فستبقى محاولاتهم قاصرة عن تحقيق ما أراده الله تعالى لدعوته {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء : 9) وبعيدة كل البعد عما حققه إمام الدعوة إلى الله تعالى صلى الله عليه وسلم من نجاح باهر في أقل مدة زمنية، حيث أخرج للدنيا جيلا ربانيا من الدعاة المصلحين أنقذ الله بهم البشرية وأخرجها من الظلمات إلى النور، فتحقق فيهم قوله تعالى : {كنتم خير أمة أخرجت للناس تامرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}(آل عمران : 110).
الوحي مصدر الدعوة إلى الله تعالى
يجب أن يكون منهج القرآن في الدعوة إلى الله إمامنا وسبيلنا ومصدر دعوتنا، فقد أكمله الله وأتمه وارتضاه لنا منهجا ودستورا {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}(المائدة : 3).
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة فهو أفضل من فقه منهج الدعوة من خلال كتاب الله، وأعظم من فقه واقعه، فكان تنزيله لنور الوحي على ذلك الواقع الجاهلي المظلم خير تنزيل فكان النجاح حليفه.
وحيث أنه لا يتيسر أن نقف مع القرآن جملة عبر هذه السطور المحدودة فقد اخترنا سورة “ق” نموذجا في الدعوة أسلوبا ومنهجا. ذلك أن المتأمل في هذه السورة -التي تعتبر من أوائل المفصل على أرجح الأقوال- تتكون عنده نظرة موجزة حول المنهج الدعوي في القرآن الكريم، من خلال أسلوبها في الرد على منكري البعث، و رد الشبهات وتربية النفوس وغير ذلك.. وكل ذلك بأسلوب دعوي رباني بليغ.
> القرآن الكريم طريق المجد وبه يكون التذكير :
يقول تعالى : {ق والقرآن المجيد} إن من براعة الاستهلال أن السورة تؤكد للدعاة إلى الله أن القرآن الكريم هو مصدر الدعوة، فهو طريق المجد والعزة لمن يريدها، ولذلك نجد أن السورة اختتمت بالتأكيد على ذلك، قال تعالى : {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}.
> تيقظ الدعاة لشبهات الأعداء :
بعد هذا الافتتاح يقول تعالى : {بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم} إلى قوله {وعندنا كتاب حفيظ}.
لقد حدد الله عز وجل الإشكال وبين الشبهة التي أثارها الكافرون حول الرسول والرسالة وقضية البعث بعد الموت فكان الرد منهجيا من خلال السورة كلها، وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله : >إن القرآن الكريم لا يواجه إنكارهم لهذه القضية فيعالجه وحده، وإنما يواجه قلوبهم المنحرفة ليردها أصلا إلى الحق، ولتتفتح على الحقائق الكبرى في صلب هذا الوجود، ومن ثم لا يدخل معهم في جدل ذهني لإثبات البعث، وإنما يحيي قلوبهم لتتدبر وتتفكر، وهذا درس يحسن أن ينتفع به من يحاول علاج القلوب<.
لقد كان الرد من العليم الخبير المحيط بكل شيء، أنهم كذبوا بالحق لما جاءهم، قال تعالى : {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج}. وهكذا يعلم الله تعالى الدعاة كيف يحددون أولا الإشكال أو الشبهة بدقة، ليكون العلاج واضحا وحاسما يتجه إلى الخلل مباشرة.
أساليب الدعوة إلى الله تعالى :
ونجد أساليب الدعوة في السورة ترتكز على :
1- الدعوة من خلال لفت الأنظار للتفكر في الكون :
يقول تعالى : {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها… كذلك الخروج} من أهم الأساليب في الدعوة إلى الله : لفت الأنظار لما حول الإنسان من تسخير دقيق ونظام بديع لا مجال فيه للصدفة أو العبث، مع تحريك القلوب في ثنايا الكلام {تبصرة وذكرى لكل عبد منيبب}.
2- الاستفادة من التاريخ في الدعوة إلى الله :
يقول تعالى : {كذبت قبلهم قوم نوح…. بل هم في لبس من خلق جديد} ثم يسترسل القرآن في تذكيرهم بأسلوب آخر متمثلا في عرضه لصفحات من كتاب التاريخ البشري، وهذا يمثل جزءا كبيرا في كتاب الله تعالى الواضح في قصص الأنبياء مع أقوامهم، مع الترْكيز في كل مناسبة على القضية التي تمثل الإشكال {أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد}.
3- التذكير بـأصل الإنسان ومصيره :
يقول تعالى : {ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس… ولدينا مزيد} بعد التذكير بالتأمل في الكون، والاعتبار بالتاريخ، يأتي أسلوب جديد في الدعوة إلى الله : وهو التذكير بالخلق، والرقابة الدقيقة، والمصير، وما ينتظر الإنسان من أهوال البعث، والنشور، والمعاد، والحساب والجنة والنار.
4- التذكير بمصارع الغابرين :
يقول تعالى : {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشدُّ منهم بطشا فنقَّبُوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد} فالتذكر للردع والإنزجار.
5- ختم السورة بالدلالة على المرجعية المحصِّنة :
{فذكر بالقرآن من يخاف وعيد} إن هذه الخاتمة أشبه ما تكون بالتقرير العام أو الخلاصة النهائية. وهي تتضمن ما يلي :
أ- تحريك القلوب للتفاعل مع قدرة الله تعالى التي لا يعجزها شيء.
ب- التقرير للحقيقة التي فيها يجادلون وبها يكذبون {إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير}.
جـ- التوجيه وذلك بتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ومن سار على هداه، بالصبر والتسبيح، واستشعار علم الله، مع تحديد الوظيفة الدعـوية في قوله تعالى : {وما أنت عليهم بجبار، فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}.
منهج الدعوة :
إن المتأمل في السورة يتضح له منهج القرآن الكريم، وذلك من خلال : تحديد الشبهة، والتدرج في الرد، والتصحيح للمفاهيم وتربية النفوس وكل ذلك بأسلوب رباني، مع توظيف المشاهد الكونية، والعبر التاريخية، وأصل الإنسان ومصيره، ووظيفة الداعية وزاده على الطريق.
وهذا ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يجعلها مادة خطبته في الجمع والأعياد والمناسبات.
روى مسلم وأبو داود والبيهقي وابن ماجة عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت : >ما أخذت {ق والقرآن المجيد} إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس<.
فاللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور أبصارنا وجلاء أحزاننا وهمومنا، ومنهج دعوتنا، وسبيلنا إلى المجد والعزة آمين والحمد لله رب العالمين.