ضوابط منهجية لاستمداد هدايات القرآن الكريم


كتاب الله تعالى أشرف كتاب وأوثق كتاب ، أنزل للعمل به، وبعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم : {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}(إبراهيم: 1)، وليتحقق المقصد من تنزيل القرآن الكريم يلزم الأمة نحوه واجبات لاستمداد الهدى المنهاجي منه في بعثتها الجديدة ، ومن جملة الضوابط المنهجية التي يلزم مراعاتها ما يلي:
أولا- ضوابط خلقية :
- تلقيه كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقاه، واستشعار المرء أنه مخاطب بما يتلو، وكأن القرآن ينزل عليه حينما يتلوه ويقرِؤه.
- التلقي من أجل العمل، وربط العلم به بالعمل به، لأنه لا علم مثمر إن لم يتبعه عمل، لا ينفصل عنه، فمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التربية كان يقوم على ربط العلم بالعمل، والفقه بالأخلاق، والتصور بالتصديق.
ثانيا- ضوابط منهاجية وأداتية :
- التمكن من أدوات التفسير القديمة والمعاصرة، ومناهج التفسير وأصوله وضوابطه(1) وخاصة:
> التعرف على تفسير القرآن الكريم من كتب التفسير المعتبرة عند العلماء قديما وحديثا، وحسن استثمارها في فهم الآيات، وأحوال العلماء والصالحين في التخلق بها والتفاعل مع توجيهاتها، وحسن تنزيلها على الواقع.
> الاطلاع ما أمكن على كتب أصول التفسير وقواعده، وكتب علوم القرآن لما فيها من قواعد أصلها العلماء ، ومناهج بينوها، تعتبر شرطا ضروريا لحفظ القرآن الكريم من التحريف والزيغ في الفهم والتأويل.
> التمكن من اللغة العربية وعلومها (صرف، ونحو، وبلاغة، ومعجم) في فهم القرآن الكريم وحسن تدبره.
> حسن الاطلاع على علوم العصر في العلوم الكونية والإنسانية والمنهجية، لإدراك إعجاز القرآن الكريم وحسن استثمارها في فهم القرآن الكريم، والإقناع به عند دعوة المخالفين إليه بالحجة المقنعة. – تنزيل القرآن على الواقع المعاصر وفهمه بناء على توجيهات القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم لا تظهر قيمته حقيقة إلا بتحكيمه وتنزيله على واقعنا، والعمل بتوجيهاته في حل مشاكلنا الواقعية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وتعليميا وقضائيا وأمنيا.
- الالتزام بالنظر الكلي للقرآن الكريم وتكامل آياته وسوره: يقول ابن حزم: “القرآن الكريم كاللفظ الواحد”(2).
- مراعاة أهدافه ومقاصده وكلياته، وليس التوقف والوقوف عند جزئياته، فهذا الأمر من الضوابط المهمة وذات النفع العميم، لأن إدراك مقصد كل شيء يعتبر خير معين على تمثله وفهمه وحسن تطبيقه “ولا تخفى أهمية الكشف عن مقاصد القرآن في فهم مراد الله من كتابه، والرقي إلى عليائه، واستنباط الهدى المنهاجي الكامن فيه، وذلك بوضع الآيات القرآنية في سياقها العام والكلي، وإرجاع مقاصد الآيات والسور والأجزاء إلى مقاصدها الكلية في تناسب تام بين كل كلمة وكل حرف وكل مقطع من مقاطع القرآن. والاقتفاء الحثيث لأنوار الهداية الكامنة في النظم القرآني مصداقا لقوله تعالى : {هدى للمتقين}(البقرة : 1).
وعلى هذا فيجب على المتعامل مع القرآن الكريم الاطلاع على مقاصد الآيات ومقاصد السور، ومقاصد الخلق، ومقاصد الأحكام والتكليف، ومقاصد التوحيد والعبودية، ومقاصد الهداية، ومقاصد التزكية والتعليم، ومقاصد القصص القرآني، ومقاصد السنن الكونية والاجتماعية في القرآن الكريم، ومقاصد الدعوة والتبليغ، وفي كلمة موجزة : عليه استحضار البعد المقاصدي لكل ما يتناوله القرآن الكريم من قضايا ومسائل.
ثالثا ضوابط علمية :
1- العلم بالله: {اِقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق ، اِقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم}(سورة العلق)، فالله عز وجل عرف بنفسه ودل الخلق عليه من خلال مجالين : مجال الكتاب المنظور (=عالم الأكوان)، ومجال الكتاب المسطور (=عالم القرآن)، فالأول مجال التفكر لمعرفة الخالق والانتقال من عالم الأكوان إلى الأخلاق، وعالم القرآن هو مجال التدبر والتعرف على الله جل وعلا، حتى إنه ليمكن القول إن القرآن إنما هو كتاب التعريف بالله تعالى وبيان أسمائه العلى وصفاته المثلى.
2- فقه أحكام القرآن والعمل بها: وهذا ضابط مهم في التعامل مع القرآن الكريم بوصفه خطابا من الله تعالى لعباده، وهو خطاب تضمن تكليفات وواجبات على العباد، فلا يصح إذن قراءته دون الوقوف على أحكامه والواجب عليهم تجاه ربهم وتجاه أنفسهم وتجاه الأغيار والآخرين، وقد احتلت الأحكام مساحة واسعة من كتاب الله ، وهكذا لا يصح التعامل مع القرآن الكريم مع الجهل بهذه الأحكام، أو إهمالها وعدم إعمالها.
3- فقه مقاصد القرآن: وتتجلى هذه المقاصد القرآن الكريم كله، في كلياته وجزئياته على السواء ، وفي كل المجالات والقضايا التي تناولها كتاب الله، وأهم هذه المقاصد:
> تحقيق العبودية لله وحده.
> دخول العباد في رحمة الله، وهدايته وولايته
> إعمار الأرض بالصلاح والعدل والرحمة وعلى مقتضى منهج الله، ولا يتم ذلك إلا بأمرين متلازمين هما:
أولا- تكوين الفرد المسلم الصالح المصلح الذي تحققت فيه صفة العبدية لله، {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون}.
ثانيا- تكوين الأمة المسلمة الصالحة المصلحة، الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر، القائمة بأمره الواقفة على حدوده، الداعية إلى الله بمنهج الله لتحقيق مرضاة الله. ولتحقيق هذه الضوابط لابد من تفاعل كل الأمة أفرادا وجماعات ومؤسسات واستنفار همم الجميع للقيام بمهمة تربية الأجيال على التفقه والتخلق بهذه المقاصد، وتشتغل كل مؤسسات الأمة وفق هذا المقصد في التربيةوالتعليم والإعلام وغيرها.
4- فقه وسائل المقاصد: من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، في كل أمر وتكليف أمر به الشارع الحكيم أو نهى عنه، فالقاعدة المحكمة هنا: حكم الوسائل يتبع حكم الغايات.
5- فقه سنن القرآن الكريم وهداياته: ففقه السنن فقه قائم بذاته لا يسع المسلم الجهل به وهو مبثوث في الكتاب ونبه الباري جل وعلا إلى ضرورة الأخذ به لأنه مفيد في فهم مقاصد الشرع ، وإدراك قوانين الله في الاجتماع البشري والعمران الحضاري، وطبيعة الأنفس وحركة المجتمعات في التدافع خيرا وشرا.
6- فقه تبليغه، والقيام بأمره، فمما يلزم المتعامل مع القرآن الكريم تبليغ كتاب الله لعباده، لأنه تبليغ للخير والرحمة ، وحب للخير لهم : خير الرحمة والهداية والرضوان، وكراهية الشر لهم: شر العذاب والضلال، والمصير المشؤوم في النار. ولا سبيل لأداء هذا الواجب ما لم يحط المسلم بفقه الدعوة في القرآن الكريم، من خلال دعوة الرسل عليهم السلام، وقوانين النصر والهزيمة ، وقوانين الولاية الربانية وقوانين الخذلان الرباني، وأصول الدعوة وأساليبها، والحكمة منها، ومقاصدها في تحقيق الهداية للناس وجلب الرحمة لهم. والمسلم المعاصر مطالب بهذا الفقه والعمل به لتحقيق استمرار الدين وانتشار الخير والرحمة في الناس، وتحقيق العدل والأمن ويلزم للقيام بهذا الأمر تأسيس معاهد للتربية والتكوين في مجال الدعوة وفنون ذلك وأساليبه ووسائله، وتأهيل الخريجين بما يلزمهم من العدة العلمية والمنهجية والفنية لممارسة الدعوة بنجاح، ومن غير ذلك تبقى النتائج محدودة والعمل فرديا. والخلاصة أن كتاب الله جل وعلا كتاب هداية وكتاب إحياء، وروح إذا بعثت في جسم دبت فيه الحياة ، والمسلمون اليوم في أمس الحاجة إلى إعادة تصحيح العلاقة مع الله جل وعلا، وهذه العلاقة لا تتم إلا بعد إصلاح العلاقة مع كتاب الله تعالى وإصلاح هذه العلاقة لا تتم على تمامها إلا بفقه هذا الكتاب علما وعملا وتعليما.

د. الطيب بن المختار الوزاني
—————
1- ينظر هنا في شروط المفسر التالية : – البرهان في علوم القرآن للزركشي – الإتقان في علوم القرآن للسيوطي
- مناهل العرفان في علوم القرآن لعبد العظيم الزرقاني
2- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم الأندلسي الظاهري، وينظر في هذا الشرط المتعلق بالنظر الكلي في القرآن الكريم كيف نتعامل مع القرآن الكريم للشيخ يوسف القرضاوي، ومفاتيح تدبر القرآن لصلاح الخالدي.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>