في كثير من الأوقات تكون النفس أحوج ما تكون إلى الارتماء في أحضان الدعاء بعد سبح طويل وسعي بين العباد ويكون الفؤاد في شوق لغيث الرحمن الرحيم القائل عز و جل في سورة البقرة{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُومِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون} (البقرة:186).
إن هذه الآية قمة الجمال والكمال و الجلال: الرب عز وجل خالق الأكوان قريب من العباد. ومن منا لا يأنس وتطيب نفسه مع الحبيب الذي يتعلق قلبه به. فيعيش في حالة من الأمن والأمان، والسكينة والهدوء والاطمئنان، لا يفتر عن ذكره وتذكره ويجد صورته حيثما ولى وجهه، وينتظر بلهفة أوقات اللقاء به.
وفي هذه الآية النورانية شعاع عجيب ينبغي أن ننتبه إليه.
ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر إلا وكان الجواب من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بقوله جل وعلا: قل كذا وكذا، قال الله تعالى في محكم تنزيله : {يَسْأَلونَكَ عَنِ الاهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} (البقرة:189)…
إلا في هذه الآية، لم يقل: قل: يا محمد إني قريب، لماذا؟ حتى لا تكون هناك واسطة بين العبد وبين الله جل وعلا، ولو كانت هذه الواسطة هي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلا واسطة بين العبد وبين الله، فهو العليم السميع البصير القريب المجيب الدعاء : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}(البقرة:186)
إن وظيفة النبي أو الداعية هي وصل الناس بالله ولا تكون ذاته هي المحور من العملية الدعوية والتربوية. وقد ورد مثال عن ذلك في كتاب الله عز وجل {وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ آنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي انْ اقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوب}(المائدة : 116).
إن الله تعالى هو واجد الوجود وواهب الجود الذي له نعمة الإيجاد والإمداد والهداية والرشاد فهو الوحيد والواحد الأحد الذي يُسْتَمَدُّ منه ويطلب منه ويستعان به في كل صغير ة وكبيرة فهو الغني وغيره مفتقر إليه. وهو القوي وغيره ضعيف {أفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}(النحل : 17- 21).
والمتأمل في المنهج التربوي النبوي يلاحظ تخلق الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا المقام فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : ((اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك، لا إله إلا أنت أن تضلني، أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون))(1).
ويلاحظ أيضا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ربّى أصحابه على ذلك : ((يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ…))(2).
وقال الله عز وجل : {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}(غافر:60).
وإن المتأمل في الآية المذكورة :{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُومِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}(البقرة:186)، يلاحظ:
1- أن فيها تخصيص وتكريم للعباد، فالله عز وجل ينسبهم لنفسه “عِبَادِي”. ليسوا عباد دنيا أو جاه أو سلطان أو دينار وإنما عباد الله تعالى. هؤلاء العباد هم الذين تشملهم معية الله وحفظه {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ..}(الحجر :42).
فمن هم عباد الله الذين يستحقون هذه الأكرمية؟ وما هي صفاتهم؟ يجيب رب العزة عن هذا السؤال في سورة الفرقان. من قوله تعالى : {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الارْضِ هَوْنًا…} إلى قوله..{قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}(الفرقان : 77).
“هذا مقام العبدية العالي! مَقَامٌ ولا كأي مقام! مقامٌ عظيم بالذلة، غني بالفقر! مُكْتَفٍ بالله جمالاًً وجلالاًً!
“عباد الرحمن”، إضافة ولا كأي إضافة! وانتساب ولا كأي انتساب! فالخلق كلهم عباد الله طوعا أو كرها! أما هؤلاء فإنما هم “عباد الرحمن”! رَغَباً ورَهَباً، وشَوْقاً ومَحَبَّةً!
“عباد الرحمن”، إنه تعبير خاص، وسمة خاصة! فيها من التقريب الرباني والتحبيب الرحماني، ما ليس في غيرها من الإضافات العَلَمِيَّةِ والوصفية إلى الأسماء الحسنى”(3)
2- حين يكون الواحد منا يعمل تحت إمرة رجل غني، أو له جاه أو سلطة أو نفوذ معين فإنه يشعر بحماية وقوة ذلك الشخص تظلله! فكيف إذا كان سيدك هو رب الأرباب خالق الأكوان!
عباد الله تعالى يستمدون من الله جل وعلا وجودهم وقوتهم {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ…}(الزمر : 36).
3- الله قريب من عباده يسمع نجواهم ويعلم خفاياهم. مطلع على أحوالهم وخباياهم {وهو معكم أينما كنتم}.
4- الله عز و جل يضمن الإجابة و تحقيق المراد {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}(غافر60).
5- الاستجابة لله من مقتضيات إجابته الدعوة {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
فاستجب يستجب لك.
—–
1- حديث صحيح رواه مسلم 2717
2- رواه الترمذي، وأحمد، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7957)
3- أنظر رعاك الله كتاب “مجالس القرآن” -لفريد الأنصاري -ج 01 ص241 مدارسة سورة الفرقان المجلس الثالث عشر. وفيها من البصائر لولوج بوابة معارج الروح واكتساب أساسيات المنهج للمؤمن في الدين والدعوة.